قوله تعالى :﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ﴾ الآية.
لمَّا ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء، والإخوان، والعشيرة، وعن الأموال، والتجارات، والمساكن، رعاية لمصالح الدِّين، وعلم أنَّ ذلك يشقّ على النفوس، ذكر ما يدلُّ على أنَّ من ترك الدُّنيا لأجل الدِّين، فإنَّهُ تعالى يوصله مطلوبه.
وضرب لهذا مثلاً، وذلك أنَّ عسكر رسول الله ﷺ في وقعة حنين، كانوا في غاية الكثرةِ والقوَّةِ، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم، صارُوا منهزمين، فلمَّا تَضَرَّعُوا في حال الانهزام إلى اللهِ تعالى قوَّاهم حتَّى هزموا عسكر الكُفَّارِ، وذلك يدلُّ على أنَّ الإنسان متى اعتمد على الدُّنيا، فاته الدِّين والدنيا، ومتى أطاع الله، ورجَّحَ الدِّين على الدُّنيا، آتاه اللهُ الدِّين والدُّنيا على أحسن الوُجوه فكان هذا تسلية لأولئك المأمورين بمقاطعة الآباءِ والأبناءِ، لأجل مصلحة الدِّين، وعداً لهم بأنهم إن فعلُوا ذلك أوصلهم اللهُ تعالى إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه.
قال الواحديُّ :« النّصر : المعونةُ على العدوِّ خاصة » « المواطن » : جمع « مَوْطِن » بكسر العين، وكذا اسم مصدره، وزمانه، لاعتلال فائه ك « المَوْعد »، قال :[ الطويل ]

٢٧٧٣- وكَمْ مَوْطنٍ لوْلايَ طِحْتَ كَما هَوَى بأجْرَامِهِ مِنْ قُنَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي
و « حُنَيْن » : اسمُ وادٍ بين مكة والطائف، فلذلك صرفه، وبعضهم جعله اسماً للبقعة، فمنعه في قوله :[ الكامل ]
٢٧٧٤- نَصَرُوا نَبيَّهُمُ وشَدُّوا أزْرَهُ بِحُنينَ يَوْمَ تواكُلِ الأبْطالِ
وهذا كما قال الآخرُ في « حراء » : اسم الجبل المعروف، اعتباراً بتأنيث البقعة في قوله :[ الوافر ]
٢٧٧٥- ألَسْنَا أكْثَرَ الثَّقليْنِ رَجْلاً وأعْظَمَهُمْ بِبطْنِ حِرَاءَ نَارَا

فصل


المرادُ بالمواطن الكثيرة : غزوات رسول الله ﷺ، ويقال : إنها ثمانون موطناً، فأعلمهم أنه تعالى هو الذي تولَّى نصر المؤمنين، ومن نصره الله فلا غالب له، ثم قال « وَيَوْمَ حُنَيْنٍ » أي : واذكر يوم حُنَيْن من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم، و « حنين » واد بين مكة والطائف.
وقيل : إلى جنب ذي المجاز. قال الرواةُ : لمَّا فتح رسول الله ﷺ مكّة، وقد بقيت أيامٌ من شهر رمضان، خرج متوجهاً إلى حنين، لقتال هوازن وثقيف، في اثني عشر ألفاً، عشرة آلاف من المهاجرين، وألفان من الطلقاءِ.
وقال عطاءٌ : عن ابن عباس « كانوا ستة عشر ألفاً ».
وقال الكلبيُّ « كانوا عشرة آلاف ». وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف، وعلى هوازن : مالكُ بن عوف النضري، وعلى ثقيف : كنانة بن عبد ياليل الثقفي، فلما التقى الجمعان، قال رجلٌ من الأنصار يقال له : سملة بنُ سلامة بن وقش : لن نغلب اليوم عن لقَّةٍ، وهو المراد من قوله :﴿ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ﴾، فساء رسول الله ﷺ كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل، وفي رواية : لم يرض الله قوله، ووكلُوا إلى أنفسهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً؛ فانهزم المشركون وتخلّوا عن الذراري، ثم نادوا يا حماة السواد اذكروا الفضائح، فتراجعوا، وانكشف المسلمون.


الصفحة التالية
Icon