وقرأ زيد بن علي في الموضعين « رَحْبَت » بسكون العين، وهي لغة تميم، يسكنون عين « فَعُل » فيقولون : في « شَرُف » « شَرْف ». و « الرُّحْب » بالضمِّ : السَّعَة، وبالفتح : الشيء الواسع، يقال : رَحُب المكان يَرْحُب رُحْباً ورَحَابَةٌ، وهو قاصر. فأمَّا تعدِّيه في قولهم : رَحُبَتكم الدار « فعلى التضمين، لأنه بمعنى » وسعتكم «.

فصل


قوله :﴿ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً ﴾ الإغناء : إعطاء ما يدفع الحاجة، أي : فلم يُعطِكم شيئاً يدفع حاجتكم. والمعنى : أنه تعالى أعلمهم أنَّهُم لا يغلبون بكثرتهم، وإنما يغلبون بنصر الله، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم، صاروا منهزمين، ثم قال :﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ﴾ أي : مع رحبها، و »
ما « ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر، والمعنى : إنكم لشدَّةِ ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرضُ، فلم تجدُوا فيها موضعاً يصلح لفراركم من عدوكم.
قال البراء بن عازب : كانت »
هوازن « رماة، فلما حملنا انكشفوا وأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، وانكشف المسلمون عن رسول الله ﷺ ولم يبق معه إلا العباس وأبو سفيان بن الحارث. قال [ البراء ] : والذي لا إله إلاَّ هو ما ولَّى رسول الله ﷺ قط، قال : رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب، والعباس آخذ بلجام دابته البيضاء وهو يقول :» أنَا النبيُّ لا كذِبْ، أنَا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِب « وطفق يركضُ بغلته نحو الكفار، ثم قال للعبَّاس : نادِ المهاجرين والأنصار - وكان العباس رجلاً صَيِّتاً - فجعل يُنَادِيك يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرةِ، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقاً واحداً، وأخذ رسولُ الله ﷺ بيده كفاً من الحَصَى، فرماهم بها، وقال :» شَاهتِ الوُجوهُ « فما زال أمرهم مدبراً، وحدهم كليلاً حتى هزمهم اللهُ، ولم يبق منهم أحد يومئذ إلاَّ وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب، فذلك قوله :﴿ ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين ﴾.
والمراد بالسّكينة : ما يسكن إليه القلبُ، ويوجب الأمنة، ووجه الاستعارة فيه : أنَّ الإنسان إذا خاف فرَّ وفُؤاده متحرك، وإذا أمن؛ سكن وثبت؛ فلمَّا كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السَّكينة كناية عن الأمن. ثم قال تعالى :﴿ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ﴾ والمراد : أَنْزَلَ الملائِكة، وليس في هذه الآية ما يدلُّ على عدّة الملائكة، كما هو في قصة بدر، فقال سعيد بن جبير :»
أيَّد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة « ولعله إنَّما قاسه على يوم بدر.
وقال سعيدُ بن المسيبِ : حدَّثني رجلٌ كان في المشركين يوم حنين قال : لمَّا كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم، فلمَّا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، تلقانا رجال بيض الوجوه، فقالوا : شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا، واختلفوا في أنَّ الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم؟ فالذي روي عن سعيد بن المسيب يدلُّ على أنهم قاتلوا، وقال آخرون : إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر، وفائدة نزولهم في هذا اليوم : هو إبقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين.


الصفحة التالية
Icon