والقسم الثاني من بلاد الإسلام : الحجازُ، فيجوز للكافر دخولها بالإذن، ولكن لا يقيم أكثر من ثلاثة أيَّامٍ، مقام السفرِ، لما روي عن عمر بن الخطابِ، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول :« لَئِنْ عِشْتُ إنْ شاءَ الله لأخرجنَّ اليهُودَ والنَّصارى من جزيرةِ العربِ، حتى لا أدعُ إلاَّ مُسْلِماً » فمضى رسول الله ﷺ وأوصى فقال :« أخرجُوا المُشركينَ مِنْ جزيرةِ العرب » فلم يتفرَّغ لذلك أبو بكر، وأجلاهم عمر في خلافته، وأحل لمن يقدم منهم تاجراً ثلاثاً.
والقسم الثالث : سائر بلاد الإسلام؛ فيجوزُ للكافر أن يقيم فيها بذمَّة أو أمان، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم.
فصل
والمراد بقوله « بَعْدَ عامهم هذا » يعني العام الذي حجَّ فيه أبو بكرٍ بالنَّاس، ونادى علي بالبراءة، وهو سنة تسع من الهجرةِ.
قوله :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ﴾. العيلةُ : الفقرُ، يقالك عَالَ الرَّجُل يَعِيلُ عَيْلَةً : إذا افتقر. والمعنى : إن خفتم فقراً بسبب منع الكفار :« فسَوْفَ يغنيكُم الله مِنْ فَضْلِهِ » قال مقاتل « أسلم أهلُ جدة وصنعاء وحنين، وحملوا الطعام إلى مكَّة، فكفاهم الله ما كانوا يخافون ».
وقال الحسنُ والضحاكُ وقتادةُ :« عوَّضهم الله عنها بالجزية » وقيل : أغناهم بالفيء. وقال عكرمة :« أنزل اللهُ عليهم المطر، وكثر خيرهم ».
فإن قيل : الغرضُ بهذا الخبر، إزالة الخوف بالعيلة، وقوله « إن شَاء اللهُ » يمنع من فائدة هذا المقصود.
فالجوابُ من وجوه :
الأول : ألاَّ يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب؛ فيكون الإنسان أبداً متضرّعاً إلى الله تعالى في طلب الخيرات، وفي دفع الآفات.
الثاني : أنَّ المقصود من ذكر هذا الشَّرط تعليم رعاية الأدب، كقوله :﴿ لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله ﴾ [ الفتح : ٢٧ ].
الثالث : المقصودُ : التَّنبيه على أنَّ حصول هذا المعنى لا يكون في كلِّ الأوقات، وفي جميع الأمكنة؛ لأنَّ إبراهيم ﷺ - قال في دعائه :﴿ وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات ﴾ [ البقرة : ١٢٦ ] وكلمة « مِنْ » للتبعيض، فقوله ههنا « إن شَاءَ اللهُ » المراد منه ذلك التبعيض.
ثم قال :﴿ إِنَّ الله عَلِيمٌ ﴾ بأحوالكم، « حَكِيمٌ » أي : لا يعطي ولا يمنع إلاَّ عن حكمة وصواب.
قوله تعالى :﴿ قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر ﴾ الآية.
لمَّا بيَّن تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة عنهم في أنفسهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام، ذكر بعده حكم أهل الكتاب، وهو أن يقاتلوا حتى يعطوا الجزية.