وقال الأصمعيُّ : لا أدري أهو الحِبْرُ أو الحَبْرُ «. وكان أبو الهيثم يقول :» واحد « الأحبار » « حَبْرٌ » بالفتح لا غير، وينكر الكسر « وكان الليثُ، وابن السِّكيت يقولان » حِبْر « و » حَبْر « للعالم ذِمِّيّاً كان أو مسلماً، بعد أن يكون من أهل الكتاب ». وقال أهل المعاني :« الحبر » : العالم الذي صناعتُه تحبير المعاني بحس البيان عنها، وإتقانها، ومنه : ثوب محبر، أي : جمع الزينة، والرَّاهبُ : الذي تمكنت الخشية والرهبة في قلبه، وظهرت آثار الرهبة على وجهه ولباسه. وفي عرف الاستعمال، صار الأحبارُ مختصاً بعلماء اليهود من ولد هارون.
والرُّهبان : علماء النَّصارى أصحاب الصَّوامع. ومعنى اتخاذهم أرباباً : أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم، واستحلُّوا ما أحلوا، وحرموا ما حرموا.
قال أكثرُ المفسرين :« ليس المراد من الأرباب أنَّهم اعتقدوا إلهيتهم، بل المراد : أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ».
قال عدي بن حاتم :« أتيتُ رسول الله ﷺ وفي عنقي صليب من ذهب وهو يقرأ سورة براءة، فقال :» يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك « فطرحته، ثم انتهى إلى قوله :﴿ اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله ﴾ فقلت : إنّا لنسا نعبدهم، فقال :» أَلَيْسَ يحرِّمون مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ ويُحلون ما حرَّم اللهُ؛ فَتَسْتحلُّونَهُ؟ « قال قلت : بلى، قال :» فَتِلْكَ عبادتُهُمْ «.
وقال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالفُ أقوال الأحبار والرهبان؛ فكانوا يأخذون بأقوالهم ويتركون حكم كتابِ الله تعالى. فإن قيل : إنَّه تعالى لمَّا كفرهم بسبب طاعتهم للأحبار والرُّهبان، فالفاسقُ يطيع الشيطانَ؛ فوجب الحكم بكفره على ما هو قول الخوارجِ.
فالجوابُ : أنَّ الفاسق إن كان يطيع الشيطان إلاَّ أنَّه لا يُعظِّمه، لكنه يلعنه، فظهر الفرق.
فصل
قوله ﴿ والمسيح ابن مَرْيَمَ ﴾ عطف على » رُهبانهم «، والمفعول الثَّاني محذوف، والتقدير : اتخذ اليهودُ أحبارهم أرباباً، والنصارى رهبانهم والمسيح ابن مريم أرْبَاباً، وهذا لأمْنِ اللَّبْس خلط الضمير في » اتَّخَذُوا «، وإن كان مقسماً لليهود والنَّصارى، وهذا مراد أبي البقاءِ في قوله :» أي : واتخذوا المسيح ربًّا، فحذف الفعل وأحد المفعولين «. وجوَّز فيه أيضاً أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي : وعبدُوا المسيح ابن مريم.
ثم قال :﴿ وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي : سبحانه أن يكون له شريك في الأمر والتكليف، وفي كونه معبوداً، وفي وجوب نهاية التعظيم.
قوله :﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ الآية.
ذكر عن رؤساء اليهود والنصارى نوعاً ثالثاً من أفعالهم القبيحة، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد ﷺ.