وأيضاً فقوله :﴿ وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ﴾ [ التوبة : ٤٢ ] دليل على أنَّ قوله :﴿ انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾ إنَّما يتناولُ من كان قادراً متمكناً، إذ لو لم تكن الاستطاعة معتبرة في ذلك التكليف، لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذراً في التخلف، فدلَّ على عدم النسخ فيها.
قوله :﴿ وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ﴾.
فيه قولان :
الأول : أنَّها تَدُلُّ على أنَّ الجهادَ يجبُ على من له المال والنفس، ومن لم يكن له ذلك، لم يجب عليه الجهاد.
والثاني : أنَّ الجهاد بالنفس يجب إذا انفرد وقوي، ويجب بالمالِ إذا ضعف عن الجهادِ بنفسه؛ فيلزمه أن ينيبَ من يغزُو عنه بنفقة من عنده، وذهب إلى هذا كثيرٌ من العلماء.
ثم قال :﴿ ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
فإن قيل : كيف يصح أن يقال : الجهادُ خير من القعُودِ ع نه، ولا خير في القعود؟
فالجوابُ : من وجهين :
الأول : أنَّ لفظ « خير » يستعمل في شيئين :
أحدهما : بمعنى : هذا خير من الآخر. والثاني : أنه خير في نفسه، كقوله تعالى ﴿ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [ القصص : ٢٤ ].
وقوله :﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ ﴾ [ العاديات : ٨ ]، وعلى هذا سقط السُّؤال.
والثاني : سلمنا أنَّ المراد كونه خيراً من غيره، إلا أن التقدير : أن ما يستفاد من نعيم الآخرة بالجهاد خير ممَّا يستفيده القاعد عنه من الرَّاحة والتنعم بها، ولذلك قال تعالى :﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
قوله :﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً ﴾ الآية.
لمَّا بالغ في ترغيبهم في الجهادِ، وأمرهم بالنَّفير، عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين، بقوله :﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً ﴾ اسم « كان » ضميرٌ يعودُ على ما دل عليه السِّياق، أي : لو كان ما دعوتَهم إليه.
والعرض : ما عرض لك من منافع الدُّنيا، والمراد هنا : غنيمة قريبة المتناول، ﴿ وَسَفَراً قَاصِداً ﴾ أي : سَهْلاً قريباً ههنا. ﴿ لاَّتَّبَعُوكَ ﴾ لخرجوا معك. ومثل بالقاصد، لأنَّ المتوسط، بين الإفراد والتفريط، يقال له : مُقتصدٌ. قال تعالى :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾ [ فاطر : ٣٢ ] ومعنى القاصد : ذو قصد، كقولهم : لابنٌ، وتامرٌ، ورابحٌ ﴿ ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة ﴾. قرأ عيسى بن عمر، والأعرج « بَعِدَت » بكسر العين. وقرأ عيسى « الشِّقَّة » بكسر الشين أيضاً قال أبو حاتمٍ : هما لغة تميم.
والشُّقَّة : الأرض التي يُشَقُّ ركوبُها، اشتقاقاً من المشقَّة.
وقال الليثُ، وابن فارسٍ : هي الأرضُ البعيدة المسير، اشتقاقاً من الشِّق، أو من المشقَّة، والمعنى : بعدت عليهم المسافة وهذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلَّفُوا عن غزوة تبوك.
قوله :﴿ وَسَيَحْلِفُونَ بالله ﴾ الجارُّ متعلقٌ ب « سَيَحْلِفُونَ ».
وقال الزمخشريُّ « بِاللهِ » متعلقٌ ب « سَيحْلفُونَ »، أو هو من جملة كلامهم، والقولُ مرادٌ في الوجهين، أي : سَيحْلِفُون، يعني : المتخلِّفين عند رجوعك معتذرين يقولون : باللهِ لو استطعنا أو سَيحْلفُونَ بالله يقولون : لو اسْتَطعْنَا.
وقوله :« لَخَرجْنَا » سدَّ مسدَّ جواب القسم، و « لَوْ » جميعاً.