فصل
قالوا : الرَّسُول - ﷺ - أخبر عنهم أنَّهم سيحلفون، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل، والأمر لمَّا وقع كما أخبر كان إخباراً عن الغيب، فكان معجزاً.
قوله تعالى :﴿ عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ الآية.
لمَّا بيَّن تعالى بقوله :﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ ﴾ أنه تخلف قوم عن ذلك الغزو، وليس فيه بيان أنَّ ذلك التخلف كان بإذن الرسول أم لا؟ فلمَّا قال بعده :﴿ عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ دلَّ هذا، على أنَّ فيهم من تخلَّف بإذنه.
قوله :﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ « لِمَ »، و « لَهُمْ » كلاهما متعلقٌ ب « أذِنْتَ »، وجاز ذلك؛ لأنَّ معنى اللاَّمين مختلف؛ فالأولى للتعليل، والثانية للتبليغ. وحذفت ألفُ « ما » الاستفهامية لانجرارها، وتقديمُ الجارِّ للأول واجبٌ؛ لأنَّه جرَّ ما له صدرُ الكلام، ومتعلَّقُ الإذن محذوفٌ، يجوزُ أن يكون القُعود، أي : لِمَ أذنت لهم في القعود، ويدل عليه السِّياق من اعتذارهم عن تخلُّفِهم عنه عليه السلام. ويجوزُ أن يكون الخروج، أي : لِمَ أذنت لهم في الخروج، لأنَّ خروجهم فيه مفسدةٌ من التخذيل، وغيره، يدلُّ عليه :﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾ [ التوبة : ٤٧ ].
قوله :﴿ حتى يَتَبَيَّنَ ﴾ يجوزُ في « حتى » أن تكون للغاية، ويجوز أن تكون للتعليل، وعلى كلا التقديرين فهي جارَّةٌ، إمَّا بمعنى « إلى »، وإمَّا بمعنى اللام، و « أنْ » مضمرةٌ بعدها، ناصبة للفعل، وهي متعلقة بمحذوفٍ.
قال أبُو البقاءِ :« تقديرهُ : هَلاَّ أخَّرْتَهم إلى أن يَتبيَّنَ، أو ليتبيَّن، وقوله :﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ يدُلُّ على المحذوف، ولا يجُوزُ أن تتعلَّق » حتَّى « ب » أذِنْتَ « لأنَّ ذلك يوجب أن يكون أذنَ لهم إلى هذه الغاية، أو لأجل التَّبيين، وذلك لا يُعاتبُ عليه » وقال الحوفيُّ :« حتى غاية لِمَا تضمَّنه الاستفهامُ، أي : ما كان له أن يأذن لهم، حتى يتبيَّن له العُذْر ».
وفي هذه العبارة بعضُ غَضَاضةٍ.
فصل
احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع، ولدخوله ﷺ تحت قوله تعالى :﴿ فاعتبروا ياأولي الأبصار ﴾ [ الحشر : ٢ ] والرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان سيداً لهُم، ثمَّ أكَّدُوا ذلك بهذه الآية فقالوا : إمَّا أن يقال : إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن، أو منعه عنه، أوْ مَا أذن له فيه وما منعهُ عنه والأول باطلٌ، وإلاَّ امتنع أن يقول له :﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾، والثاني باطل؛ لأنه يلزم منه أن يقال : إنَّه حكم بغير ما أنزل الله، فيدخل تحت قوله :﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله ﴾ [ المائدة : ٤٤-٤٧ ] الآيات. وذلك باطل بصريح القول.