﴿ فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً ﴾ [ التوبة : ٨٣ ] وقوله تعالى :﴿ سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ﴾ [ الفتح : ١٥ ] فاندفع السُّؤال على طريق أبي مسلم.
والجوابُ على طريقة غيره، وهو أن نسلم أنَّ العتاب في قوله :﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٤٣ ] يوجب أنَّهُ ﷺ أذن لهم في القعود، فنقولُ : ذلك العتابُ ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة، بل لأجل أنَّ إذنه عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك القعود مفسدة، وبيانه من وجوه :
الأول : أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل، ولهذا قال تعالى ﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين ﴾ [ التوبة : ٤٣ ].
والثاني : أن التقدير أنه ﷺ ما كان يأذن لهم في القعود، فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم، ولم يغتَرُّوا بقولهم، فلمَّا أذن الرَّسولُ في ذلك القعود بقي نفاقهم مخفياً، وفاتت تلك المصالح.
والثالث : أنَّهم لمَّا استأذنوا رسول الله ﷺ غضب عليهم وقال :﴿ اقعدوا مَعَ القاعدين ﴾ ثم إنَّهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا : قد أذن لنا، فقال تعالى :﴿ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٤٣ ] أي : لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى غرضهم.
الرابع : أن الذين يقولون إن الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، قالوا : إنه إنَّما أذن بمجرد الاجتهاد وذلك غير جائز؛ لأنهم لمَّا تمكنوا من الوَحْيِ، وكان الإقدامُ على الاجتهاد مع التَّمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حضور النَّص، فلمَّا كان هذا غير جائز فكذا ذاك.
ثم قال تعالى :﴿ وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين ﴾. واختلفوا في تأويل هذا القول، فقيل : هو الشيطان على طريق الوسوسة، وقيل : قاله بعضهم لبعضٍ. وقيل : قاله الرسُول - ﷺ -، لمَّا أذن لهم في التخلف، فعاتبه الله. وقيل : القائل هو الله تعالى؛ لأنه كره خروجهم؛ لأجل الإفساد، فأمرهم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص. ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله ﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ﴾ أي : في جيشكم، وفي جمعكم. وقيل :« فِي » بمعنى « مع » أي : معكم.
قوله :« إِلاَّ خَبَالاً » جَوَّزُوا فيه أن يكون استثناء متصلاً، وهو مفرَّغٌ؛ لأنَّ زاد يتعدى لاثنين.
قال الزمخشري المُسْتَثنى منه غيرُ مذكورٍ، فالاستثناءُ من أعمِّ العام، الذي هو الشيء فكان استثناء متصلاً، فإنَّ « الخبال » بعض أعمِّ العام، كأنه قيل :« ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً » وجوَّزُوا فيه أن يكون منقطعاً، والمعنى : ما زادوكم قوةً ولا شدةً، ولكنْ خبالاً.


الصفحة التالية
Icon