والرابع : أنَّ « الذي » تقعُ مصدرية، والتقدير : وخضتم خوضاً. ومثله :[ البسيط ]

٢٨١٢- فَثَبَّتَ الهُ ما آتَاكَ مِنْ حسبٍ في المُرسلينَ ونَصْراً كالَّذِي نُصِرُوا
أي : كنَصْرهم. وقول الآخر :[ البسيط ]
٢٨١٣- يَا أمَّ عَمْرو جَزاكِ اللهُ مَغْفِرةً رُدِّي عليَّ فُؤادِي كالذي كَانَا
أي : ككون. وقد تقدَّم أنَّ هذا مذهب الفراء، ويونس، وقد تقدَّم تأويل البصريين لذلك قال الزمخشريُّ « فإن قلت : أيُّ فائدة في قوله :﴿ فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ ﴾، وقوله ﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ ﴾ مغنٍ عنه، كما أغْنَى » كالَّذِي خَاضُوا « ؟ قلت : فائدته أن يذُمَّ الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدُّنيا، ورضاهم بها عن النَّظرِ في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يُخَسِّس أمر الاستمتاع ويُهَجِّن أمر الراضي به، ثم شبَّه حال المخاطبين بحالهم، وأمَّا ﴿ وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا ﴾ فمعطوفٌ على ما قبله ومسندٌ إليه، مُسْتَغْنٍ بإسناده إليه عن تلك المقدمة يعني : أنه استغنى عن أن يكون التَّركيبُ : وخاضُوا، فخضتم كالذي خاضوا ». وفي قوله ﴿ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ ﴾ إيقاعٌ للظَّاهر موقع المضمر، لنُكتَةٍ، وهو أنَّه كان الأصلْ : فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتعوا بخلاقهم؛ فأبرزهم بصورةِ الظَّاهر تحقيراً لهم، كقوله :﴿ لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً ﴾ [ مريم : ٤٤ ]، وكقوله قبل ذلك :﴿ المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ ﴾، ثم قال :﴿ إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [ التوبة : ٦٧ ] وهذا كما يدلُّ بإيقاع الظَّاهر موقع المضمر على التفخيم والتعظيم، يدُلُّ به على عكسه، وهو التَّحقير.

فصل


معنى الآية : إنَّكُم فعلتم كفعل الذين من قبلكم، بالعدولِ عن أمر الله والأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وقبض الأيدي عن الخيرات، و ﴿ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً ﴾ بَطْشاً ومنعَةً، ﴿ وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً ﴾ إنما استمتعوا مدة بالدُّنيا، باتباع الشَّهوات، ورضوا به عوضاً عن الآخرة، ﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ ﴾، والخلاق : النصيب وهو ما قدر للإنسان من خير. ﴿ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ ﴾ وسلكتم سبيلهم « وخُضْتُم » في الباطلِ والكذب على الله وتكذيب رسله، والاستهزاء بالمؤمنين، « كالذي خاضوا » أي : كما خاضوا.
﴿ أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة ﴾ أي : بطلت حسناتهم في الدُّنيَا بسبب الموت والفقر والانتقال من العزِّ إلى الذُّل ومن القوة إلى الضَّعْفِ، وفي الآخرة؛ لأنَّهُم لا يثابون بل يعاقبون أشد العقاب. ﴿ َأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون ﴾ حيثُ أتعبوا أنفسهم في الردِّ على الأنبياء، ولم يجدوا منه إلا فوات الخير في الدُّنيا والآخرة، فكما حبطت أعمالهم وخسروا حبطت أعمالكم وخسرتم.
روى أبو سعيد الخدري عن النبي ﷺ :« لتتَّبِعُنَّ سُنَنَ من قبلكمُ شِبْراً بِشبرٍ، وذِرَاعاً بذرَاع، حتَّى إذا دخلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لاتَّبعْتُموهُمْ » قيل : يا رسول الله اليهود والنصارى قال :« فَمَنَّ؟ » وفي رواية أبي هريرة : فهل النَّاسُ إلاَّ هُمْ؟ فلهذا قال في المنافقين « بَعْضُهم من بَعْضٍ »، وقال في المؤمنين :« بَعْضُهمْ أولياءُ بَعْض » أي : في الدِّين واتفاق الكلمة، والعون، والنصرة، « يَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ » بالإيمان والطَّاعة والخير، وقد تقدَّم الكلام على « يَأمُرونَ بالمَعْرُوفِ ».


الصفحة التالية
Icon