« عاهد الله » فيه معنى القسم، فلذلك أجيب بقوله :« لنصَّدقنَّ »، وحذف جوابُ الشرط لدلالة هذا الجواب عليه، و « اللاَّم » للتوطئةِ، ولا يمتنع الجمعُ بين القسم واللاَّم الموطئة له.
وقال أبُو البقاءِ : فيه وجهان :
أحدهما : تقديره :« عاهد، فقال : لئِنْ آتَانَا ».
والثاني : أن يكون « عاهد » بمعنى : قال، فإنَّ العهد قول. ولا حاجة إلى هذا.
قوله :﴿ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ ﴾ قرأهما الجمهور بالنُّون الثقيلة. والأعمش بالخفيفة.
قال الزجاج الأصل :« لنتَصدَّقنَّ »، ولكن التَّاء أدغمت في الصَّاد، لقربها منها.
قال الليثُ : المُتصدق : المعطي، والمُتصدق : السائل. قال الأصمعيُّ، والفرَّاءُ : هذا خطأ، فالمتصدق هو المعطي، قال تعالى :﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين ﴾ [ يوسف : ٨٨ ] واعلم أنَّ هذه السورة نزل أكثرها في شرح أحوال المنافقين؛ فلهذا ذكرهم على التفصيل فقال :﴿ وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي ﴾ [ التوبة : ٦٢ ] ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات ﴾ [ التوبة : ٥٨ ] ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي ﴾ [ التوبة : ٤٩ ] ﴿ وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ ﴾ [ التوبة : ٧٥ ].
والمشهور في سبب نزول هذه الآية : ما روى أبو أمامة قال : جاء ثعلبةُ بنُ حاطبٍ الأنصاريُّ إلى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله ادعُ الله أن يرزقني مالاً، فقال رسول الله ﷺ « ويحْكَ يا ثعلبةُ قليلٌ تُؤدِّي شُكرَهُ خيرٌ من كثيرٍ لا تُطِيقهُ » ثمَّ أتاهُ بعد ذلك فقال :« أمّا لكَ في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ؟ والذي نفسي بيدهِ لوْ أردتُ أن تسيرَ الجبالُ معي ذهباً وفضةً لسَارَتْ »
ثمَّ راجعه بعد ذلك، فقال : يا رسول الله : ادعُ الله أن يرزقني مالاً، والذي بعثك بالحقِّ لئن رزقني الله مالاً لأعطين كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فقال رسول الله ﷺ « اللَّهُمَّ ارزقْ ثعلبةَ مالاً » قال : فاتَّخذ غنماً؛ فنمت كما ينمو الدُّودُ، حتى ضاقَتْ بها المدينةُ فتنحَّى عنها، ونزل وادياً من أوديتها، وكان يصلي مع رسول الله الظهر والعصر، ويصلي في غنمة سائر الصلوات، ثم كثُرتْ ونمتْ، فتباعد حتى كان لا يشهدُ جمعةً ولا جماعة؛ فكان إذا كان يوم الجمعة خرجَ يتلقَّى النَّاس يسألهم عن الأخبار، فذكرهُ رسول الله ﷺ ذات يوم فقال :« ما فعل ثعلبةُ؟ »
قالوا : يا رسول الله؛ اتَّخذَ غنماً ما يسعها وادٍ، فقال رسول الله ﷺ « يا ويْحَ ثَعلبةَ » فأنزل الله تعالى آية الصدقات؛ فبعث رسُول الله ﷺ رجلاً من بني سليم، ورجلاً من جهينة، وكتب لهما أسنان الصدقة كيف يأخذانها، وقال لهما :« مُرَّا بثعلَبَة بنِ حاطبٍ، وبرجُلٍ من بنِي سليمٍ، فخذا صدقاتهما » فخرجا حتى أتيا ثعلبة؛ فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله ﷺ، فقال : هذه إلاَّ الجزية، ما هذه إلاَّ أخت الجزية، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليَّ، فانطلقا وسمع بهما السُّلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصَّدقة، ثم استقبلهما بها، فلمَّا رأياها قالا : ما هذه عليك؛ قال خذاه فإنَّ نفسي بذلك طيبة، فمرَّا على الناس، وأخذَا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة، فقال : أروني كتابكما؛ فقرأه ثم قال : ما هذه إلا جزية، ما هذه إلاَّ أختُ الجزية، اذهبا حتَّى أرى رأيي، قال فأقبلا، فلما رآهما رسول الله ﷺ قال قبل أن يكلماه : يا ويْحَ ثعلبةَ، ثُمَّ دعا للسلميّ بخيرٍ؛ فأخبراه بالذي صنع ثعلبة؛ فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - ﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله ﴾ الآية على قوله :﴿ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾ [ التوبة : ٧٧ ] وعند رسول الله ﷺ رجلٌ من أقارب ثعلبةَ؛ فسمع ذلك، فخرج حتَّى أتاهُ فقال : ويْحَكَ يا ثعلبة، قد أنزل الله عزَّ وجلَّ فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي ﷺ فسأله أن يقبل صدقته، فقال :