واعلم أنَّ الفرح بالإقامة يدل على كراهيةِ الذهاب، إلاَّ أنَّهُ أعاده للتَّأكيد، أو لعلَّ أن المراد أنَّ طبعه مال إلى الإقامة؛ لأجل إلفه البلدة، واستثنائه بأهله وولده، وكره الخروج إلى الغزو؛ لأنَّهُ تعريضٌ للمال والنفس للقتلِ، وأيضاً منعهم عن الخروج شدة الحرِّ في وقت خروج رسُولِ الله ﷺ، وهو المرادُ من قوله :﴿ لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر ﴾، فأجاب اللهُ عن هذا الأخير بقوله :﴿ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ أي : يعلمون، وكذلك في مصحف عبد الله بن مسعود، أي : بعد هذه الدَّار، دار أخرى، وبعد هذه الحياة حياة أخرى، وأيضاً هذه مشقة منقضية، وتلك مشقة باقية.
وأنشد الزمخشريُّ لبعضهم :[ الطويل ]
٢٨٢١- مَسَرَّةَ أحْقابٍ تلقَّيْتُ بَعْدهَا | مسَاءةَ يَوْمٍ أريُهَا شَبَهُ الصَّابِ |
فَكيفَ بأنْ تَلْقَى مسرَّةَ سَاعَةٍ | ورَاء تَقَضِّيها مَسَاءَةُ أحْقَابِ |
« قَلِيلاً »، و « كَثِيراً » فيهما وجهان :
أظهرهما : أنَّهما منصوبان على المصدر، أي : ضحكاً قليلاً وبكاءً كثيراً؛ فحذف الموصوفَ، وهو أحدُ المواضع المُطَّردِ فيها حذفُ الموصوف وإقامةُ الصفة مقامه.
والثاني : أنَّهما منصوبان على ظرفي الزمان، أي : زماناً قليلاً، وزماناً كثيراً والأول أولى؛ لأنَّ الفعل يدلُّ على المصدر بشيئين : بلفظه ومعناه، بخلاف ظرف الزمان فإنه لا يدلُّ عليه بلفظه، بل بهيئته الخاصَّةِ.
وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلاَّ أنَّ معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة، لقوله تعالى بعده ﴿ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾.
قوله :« جَزَاءً » فيه وجهان :
الأول : قال الزَّجَّاج : إنَّه مفعولٌ لأجله، أي : سبب الأمر بقلَّة الضَّحكِ، وكثرة البكاء جزاؤهم بعملهم. و « بِمَا » متعلق ب « جزاء »، لتعديته به ويجوزث أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّه صفته.
والثاني : أن ينتصب على المصدر بفعلٍ مقدَّرٍ، أي : يُجْزونَ جزاءً. ﴿ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ في الدنيا من النِّفاق.
قوله تعالى :﴿ فَإِن رَّجَعَكَ الله ﴾ الآية.
« رَجَعَ » يتعدَّى كهذه الآية الكريمة، ومصدرُهُ :« الرَّجْع »، كقوله ﴿ والسمآء ذَاتِ الرجع ﴾ [ الطارق : ١١ ]. ولا يتعدَّى، نحو :﴿ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ] في قراءة من بَنَاهُ للفاعل. والمصدر : الرُّجوعُ، كالدُّخُولِ.
والمعنى : فإن ردَّك الله من غزوة تبوك إلى المدينة، ومعنى « الرجع » مصير الشَّيء إلى المكان الذي كان فيه، يقال : رجعته رجعاً، كقولك : رددته رداً.
وقوله :﴿ إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ ﴾ إنَّما خصَّصَ؛ لأنَّ جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين، بل كان بعضهم مخلصين معذورين، ﴿ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ ﴾ معك في غزوة أخرى ﴿ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً ﴾ في سفر، ﴿ وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً ﴾ وهذا يجري مجرى الذَّم واللَّعن لهم، ومجرى إظهار نفاقهم وفضائحهم؛ لأنَّ ترغيب المسلمين في الجهاد أمرٌ معلومٌ بالضَّرورة من دين محمَّد ﷺ، ولمَّا منعوا هؤلاء من الخروج إلى الغزو بعد ذلك الاستئذان، كان ذلك تصريحاً بكونهم خارجين عن الإسلام، ونظيره قوله تعالى