فصل


اعلم أنَّهُ تعالى أمر رسوله أن يُهينَهُم، ويذلهم، بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات ثمَّ منعه في هذه الآية من أن يُصلي على من مات منهم. روى ابنُ عبَّاسٍ : أنَّه مات، ويقوم على قبره، ثمَّ إنه أرسل إلى الرسول ﷺ وطلب منه قميصه، ليكفن فيه؛ فأرسل إليه القميص الفوقاني، فردَّه، وطلب الذي يلي جلده ليكفَّن فيه، فقال عمرُ : لِمَ تُعطِي قميصَك للرجس النَّجس؟ فقال رسول الله ﷺ « إنَّ قميصِي لا يُغْنِي عنهُ مِنَ اللهِ شيئاً، ولعلَّ اللهَ أن يُدخلَ بِه ألفاً في الإسلام » وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله؛ فلمَّا رأوه يطلبُ القميص، ويرجو أن ينفعه، أسلم منهم يومئذ ألفٌ.
فلمَّا مات جاء ابنُهُ يعرفه، فقال ﷺ لابنه :« صَلِّ عليْهِ واذْفِنْهُ »، فقال : إن لم تُصل عليه يا رسول الله لم يُصَلّ عليه مسلمٌ، فقام ﷺ، ليصلِّي عليه؛ فجاء عمر فقام بين رسول الله ﷺ وبين القبلة؛ لئلاَّ يصلي عليه، فنزلت الآية وأخذ عمر بثوبه وقال :﴿ وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ﴾، وهذا يدلُّ على منقبة عظيمة من مناقب عمر؛ وذلك لأنَّ الوَحْيَ نزل على وَفْق قوله في آيات كثيرة منها : آية أخذ الفداء عن أسارى بدر كما سبق، ومنها :« آية تحريم الخمر » [ المائدة : ٩٠ ]، ومنها :« آية تحويل القبلة » [ البقرة : ١٤٢ ]، ومنها : آية أمر النِّساء بالحجاب، وهذه الآية؛ فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر منصباً عالياً، ودرجة رفيعة في الدِّين، ولهذا قال ﷺ :« لوْ لَمْ أبْعَثْ لبعثتَ يا عمر نبيّاً ».
قال القرطبيُّ : إن قال قَائِلٌ، كيف قال له عمر : أتصلي عيه، وقد نهاكَ اللهُ أنْ تُصَلِّي عليه ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم؟ قيل له : يحتملُ أن يكون ذلك وقع له في خاطره، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به رسول الله ﷺ، وقد كان القرآن ينزل على وفق مراده، كما قال : وافقت ربي في ثلاث، وجاء : في أربع؛ فيكون هذا من ذاك. ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله :﴿ استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٨٠ ] الآية، ويحتملُ أن يكون فهم ذلك من قوله :﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [ التوبة : ١١٣ ] فإن قيل : كيف يجوزُ أن يرغب الرسول - ﷺ - في الصَّلاة عليه بعد علمه بأنه كافر وقد مات على كفره، وأنَّ صلاة الرَّسول - ﷺ - تجري مجرى الإجلال والتَّعظيم وأيضاً فالصَّلاة عليه تتضمَّنُ الدُّعاء له، وذلك محظورٌ؛ لأنَّه تعالى أعلمه أنه لا يغفر للكافرِ ألبتة، وأيضاً دفع القميص إليه يوجب إعزازه؟.


الصفحة التالية
Icon