و « كُفْراً » قال ابنُ عباسٍ : يريدُ به ضراراً للمؤمنين، وكُفْراً بالنبي - ﷺ -، وما جاء به. قال ابنُ عباسٍ، ومجاهد وقتادة وغيرهم : إنَّ أبا عامر الرَّاهب كان خرج إلى قيصر وتنصَّر، ووعدهم قيصر أنَّه سيأتيهم، فبنوا مسجد الضّرار يرصدون مجيئه فيه. وقال غيرهم : اتخذوه ليَكْفُرُوا فيه بالطَّعْنِ على النبيِّ - ﷺ -. « وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين » أي : يفرقُون بواسطته جماعة المؤمنين وذلك لأن المنافقين قالوا : نبني مسجداً فنُصلِّي فيه؛ ولا نصلِّي خلف محمَّدٍ، فإن أتانا فيه صلينا خلفه وفرقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده، فيؤدي ذلك إلى اختلافِ الكلمة وإبطال الألفة.
وكان يُصلِّي لهم مجمعُ بنُ حارثة، فلمَّا فرغوا أتوا رسول الله ﷺ هو يتجهَّزُ إلى تبوك، فقالوا يا رسول الله : إنَّا بنينا مسجداً لذي العلَّة والحاجة، والليلةِ المطيرةِ، والليلة الشاتية، وإنَّا نحب أن تأتينا تصلي لنا فيه، وتدعو بالبركةِ، فقال رسُول الله ﷺ :« إنِّي على جناح سفرٍ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه ».
فصل
قال القرطبيُّ :« تفطَّن مالكٌ - رحمه الله - من هذه الآية وقال : لا يُصلِّي جماعتان في مسجدٍ واحدٍ بإمامين، خلافاً لسائر العلماء. وروي عن الشَّافعي المنع؛ لأنَّ في ذلك تشتيتاً للكلمة، وإبطالاً لهذه الحكمة، وذريعة إلى أن نقول : من يريدُ الانفراد عن الجماعةِ كان له عذر فيقيمُ جماعة، ويقدم إمامه فيقعُ الخلاف بينهم، ويبطل الكلام وخفي ذلك عليهم ».
قوله :﴿ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ﴾.
الإرصاد : الانتظارُ، قاله الزجاجُ : وقال ابنُ قتيبة : الانتظارُ مع العداوةِ. قالوا : والمرادُ به : أبو عامر الرَّاهبُ، وهو والد حنظلة غسيل الملائكة، وكان قد ترهَّب في الجاهليَّة، وتنصَّر ولبس المسوح، فلمَّا قدم النبيُّ - ﷺ - المدينة قال له أبُو عامرٍ : ما هذا الذي جِئْتَ به؟ قال :« جئت بالحنيفية دين إبراهيم »، قال أبو عامرٍ : أنا عليها، فقال النبيُّ ﷺ « إنَّكَ لَسْتَ عليهَا » قال بلى، ولكنك أدخلتَ في الحنيفيَّة ما ليس منها، فقال النبي ﷺ « ما فعلتُ ولكنِّي جئتُ بها بيضَاءَ نقيَّةٌ » فقال أبُو عامرٍ، أمات اللهُ الكاذبَ طريداً وحيداً غريباً، فقال النبي ﷺ :« آمين » وسمَّاه أبا عامر الفاسق فلمَّا كان يوم أحد، قال أبُو عامر لرسول الله ﷺ : لا أجدُ قوماً يقاتلُونك إلاَّ قاتلتك معهم؛ فلمْ يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلمَّا انهزمت هوازن يئس، وخرج هارباً إلى الشَّام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدُّوا لما استطعتم من قوَّة وسلاح، وابنُوا لِي مسجداً فإنِّي ذاهب إلى قيصر ملك الرُّوم، فآتي بجندٍ من الرُّوم، فأخرج مُحمَّداً وأصحابه من المدينة فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء، فذلك قوله :﴿ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ ﴾ [ التوبة : ١٠٧ ] وهو أبو عامر الفاسق، ليصلي فيه إذا رجع من الشَّام.