لمَسْجِدٌ... « فيه وجهان :
أحدهما : أنَّها لامُ الابتداء.
والثاني : أنَّها جوابُ قسمٍ محذوف تقديره : والله لمسجدٌ أسِّسَ، أي : بني أصله على التقوى.
وعلى التقديرين فيكون » لمَسْجِدٌ « مبتدأ، و » أسِّسَ « في محل رفع نعتاً له، و » أحقُّ « خبره. والقائمُ مقام الفاعل ضميرُ المسجد على حذف مضاف، أي : أسِّسَ بنيانه، و » مِنْ أوَّلِ « متعلقٌ به، وبه استدلَّ الكوفيون على أنَّ » مِنْ « تكون لابتداء الغاية في الزمان؛ واستدلُّوا أيضاً بقوله :[ الطويل ]٢٨٤٥- مِنَ الصُّبْحِ حتَّى تطلُعَ الشَّمسُ لا تَرَى | من القَوْمِ إِلاَّ خَارِجيّاً مُسَوَّمَا |
وقول الآخر :[ الطويل ]٢٨٤٦- تُخَيَّرنَ مِنْ أزمانِ يوْمِ حليمَةٍ | إلى اليوْمِ قَدْ جُرِّيْنَ كُلَّ التَّجاربِ |
وقد تأوَّله البصريون على حذف مضاف، أي : من تأسيس أول يوم، ومن طلوع الصُّبحِ، ومن مجيء أزمان يوم. قال القرطبي :» مِنْ « عند النحويين مقابلة » مُنذ «، ف » منذ « في الزمان بمنزلة » من « في المكان، أي : من تأسيس أوَّل الأيام؛ فدخلت على مصدر الفعل الذي هو » أسس « ؛ كقوله :[ الكامل ]٢٨٤٧- لِمَنِ الدِّيارُ بقُنَّةِ الحَجْرِ | أقْويْنَ مِنْ حِجَجٍ ومِنْ دَهْرِ؟ |
أي من مرور حجج ومن مرور دهر، وإنَّما دعا إلى هذا أنَّ من أصول النحويين أنَّ » مِنْ « لا يجر بها الأزمان، وإنَّما تُجَرّ الأزمانُ ب » مِنْذُ «، تقولُ : ما رأيته منذُ شهرٍ، أو سنة. قال أبو البقاءِ » وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ التأسيسَ المقدر ليس بمكانٍ، حتَّى تكون لابتداءِ الغاية ويدلُّ على جواز ذلك قوله :﴿ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ﴾ [ الروم : ٤ ]، وهو كثيرٌ في القرآن وغيره «.
قال شهابُ الدِّين : البصريون إنَّما فرُّوا من كونها لابتداء الغاية في الزَّمان، وليس في هذه العبارة ما يقتضي أنها لا تكونُ إلا لابتداء الغاية في المكان حتَّى يردّ عليهم بما ذكر، والخلاف في هذه المسألة قوي، ولأبي علي فيها كلامٌ طويلٌ. وقال ابنُ عطيَّة :» ويحْسُنُ عندي أن يستغنى عن تقدير، وأن تكون « من » تجر لفظة « أول » ؛ لأنَّها بمعنى : البداءة، كأنَّهُ قال : من مبتدأ الأيام، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو «.
وقوله :» أَحَقُّ « ليس للتفضيل، بل بمعنى » حقيقٌ «، إذْ لا مفاضلة بين المسجدينِ.
قال القرطبيُّ » أحقُّ « هو أفعل من الحق، و » أفعل « لا يدخلُ إلاَّ بين شيئين مشرتكين لأحدهما مزيَّة في المعنى الذي اشتركا فيه على الآخر، فمسجدُ الضِّرار وإن كان باطلاً لا حقَّ فيه، فقد اشتركا في الحقِّ من جهة اعتقاد بانيه، أو من جهة اعتقاد من كان يظُن أنَّ القيام فيه جائز للمسجدية، لكن أحد الاعتقادين باطل باطناً عند الله، والآخر حق باطناً وظاهراً، ومثله قوله تعالى :