وثانيها : إذا قيل : عفا السُّلطان عن فلان ثمَّ عفا عنه، دلَّ على أنَّ ذلك العفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمالِ والقوَّةِ، قال ﷺ :« إنَّ اللهَ ليغفِرُ ذَنْبَ الرَّجُلِ المُسلمِ عشرينَ مرَّة » وهذا معنى قول ابنِ عبَّاس في قوله :﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ﴾ يريدُ ازداد عنهم رضا. قال ابنُ عبَّاسٍ : مَنْ تاب اللهُ عليه لمْ يُعذِّبْه أبَداً. وتقدمت هذه الآثار في سورة النساء.
وثالثها : أنه قال ﴿ لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة ﴾ وهذا الترتيبُ يدلُّ على أنَّ المراد أنَّهُ تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقعُ في قلوبهم في ساعة العسرةِ، ثمَّ إنه تعالى زاد عليه فقال :﴿ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ﴾ فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلاَّ يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس. ثمَّ قال تعالى ﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ وهما صفتان لله تعالى، ومعناهما متقارب، ويمكنُ أن تكون الرَّأفة عبارة عن إزالة الضَّرر، والرحمة عبارة عن إيصال المنفعة.
وقيل : إحداهما للرَّحمة السَّالفة، والأخرى للمستقبلة.
قوله :﴿ وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ ﴾ الآية.
قوله « وعَلى الثَّلاثةِ » يجوزُ أن ينسقَ على « النبيِّ، أي : تاب على النبي، وعلى الثلاثة، وأن ينسقَ على الضَّمير في » عَليْهِمْ « أي : تاب عليهم، وعلى الثلاثة، ولذلك كُرِّرَ حرفُ الجر.
وقرأ جمهورُ النَّاس » خُلِّفُوا « مبنيّاً للمفعول مشدداً، من : خلَّفه يخلِّفه.
وقرأ أبُو مالك كذلك إلاَّ أنَّه خفَّف اللاَّم. وقرأ عكرمةُ، وزر بنُ حبيشٍ، وعمرُو بنُ عبيدٍ، وعكرمة بنُ هارُونَ المخزميّ، ومعاذ للقارئ » خَلَفُوا « مبنيّاً للفاعل مخففاً من :» خَلَفَه «.
والمعنى : الذين خلفوا، أي : فسدُوا، مِنْ : خُلُوف الفمِ. ويجُوزُ أن يكون المعنى أنهم خلفُوا الغازينَ في المدينة. وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء كذلك، إلاَّ أنَّهُمَا شدَّدَا اللام وقرأ أبو رزين، وعلي بنُ الحسينِ، وابناه : زيدٌ، ومحمد الباقرُ، وابنه جعفر الصادقُ :» خَالفُوا « بألف، أي : لم يُوافِقُوا الغازين في الخروج.
قال الباقرُ » ولوْ خُلِّفُوا لم يكن لهم «.
وقرأ الأعمش » وعلى الثَّلاثة المخلَّفين «. و » الظَّن « هنا بمعنى العلم؛ كقوله :[ الطويل ]
٢٨٥٧- فقُلْتُ لهُم :
ظُنُّوا بألْفَيْ مُدَجَّجٍ | سراتهُم في الفَارسيِّ المُسَرَّدِ |