وأما الثاني : وهو أن هذا حكم مبتدأ؛ فتقريره أنَّ الله تعالى، لمَّا بيَّن في هذه السورة أمر الهجرة، ثم أمر الجهاد، وهما عبادتان بالسَّفر، بيَّن أيضاً عبادة التفقه من جهة الرَّسُول وله تعلق بالسفر، فقال :﴿ وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ﴾ إلى حضرة الرَّسُول - ﷺ - ليتفقهوا في الدِّين، بل ذلك غيرُ واجب، وليس حاله كحال الجهادِ مع الرسول الذي يجبُ أن يخرج فيه كل من لا عُذْرَ لهُ.
ثم قال :﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ ﴾ يعني من الفرق الساكنين في البلاد، طائفة إلى حضرة الرَّسُول - ﷺ - ليتفقهوا في الدِّين، وليعرفوا الحلال والحرام ويعودوا إلى قومهم؛ فينذروا ويحذروا قومهم، لكي يرجعوا عن كفرهم، وعلى هذا فالمرادُ وجوب الخروج إلى حضرة الرَّسُول للفقه والتعلُّم.
فإن قيل : أفتدلُّ الآيةُ على وجوب الخروجِ للتفقه في كُلِّ زمان؟
فالجواب : متى عجز عن التفقه إلاَّ بالسَّفر؛ وجب عليه السَّفر، وفي زمان الرسول - عليه الصلاة السلام - كان الأمر كذلك؛ لأنَّ الشريعة ما كانت مستقرة، بل كان يحدث كل يوم تكليف جديد، وشرع حادث. وأمَّا الآن فقد صارت الشريعة مستقرة؛ فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يجب السَّفرُ.
قوله :﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ ﴾ « لولا » تحضيضية، والمرادُ به الأمر؛ لأنَّ « لوْلاَ » إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل « هَلاَّ » ؛ لأنَّ « هَلاَّ » كلمتان « هل » وهو استفهام وعرض؛ لأنك إذا قلت للرَّجُلِ : هل تأكلُ؟ فكأنَّك عرضت ذلك عليه، و « لا » وهو جحد، ف « هلاَّ » مركب من أمرين : العرض، والجحد. فإذا قلت : هلا فعلت كذا؟ فكأنك قلت : هل فعلت. ثم قلت معه « لا » أي : ما فعلت، ففيه تنبيه على وجوب الفعل وتنبيه على أنه حصل الإخلال بهذا الواجب، وهكذا الكلام في « لوْلا » لأنك إذا قلت : لوْلاَ دخلتَ عليَّ، ولوْلا أكلتَ عِنْدِي، فمعناه أيضاً عرض وإخبار عن سرورك به، لو فعل، وهكذا الكلام في « لوما » ومنه قوله :﴿ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة ﴾ [ الحجر : ٧ ] ف « لَوْلاَ »، و « هَلاَّ » و « لوْمَا » ألفاظ متقاربة، والمراد بها : الترغيب والتحضيض. و « مِنْهُم » يجوزُ أن يكون صفةً ل « فِرْقَةٍ »، وأن يكون حالاً من « طَائِفَةٌ » ؛ لأنَّها في الأصل صفة لها.


الصفحة التالية
Icon