والمعنى : أنَّهم عند سماع تلك السُّورةِ يتأذون، ويريدون الخروج من المسجد، يقول بعضهم لبعض ﴿ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ﴾ من المؤمنين إن قمتم، فإن لم يراهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أنَّ أحداً يراهم أقاموا وثبتوا. وقيل : إنهم كانُوا إذا نزلت سورةٌ اشتدَّ كفرهم ونفاقهم، وذلك النظر دالٌّ من الإنكار الشديد، والنفرة التامة، فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النَّظر وتلك الأحوال الدَّالة على النِّفاقِ والكفر؛ فعند ذلك قالوا :﴿ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ﴾ أي : لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم جدّاً.
ثم قال تعالى :﴿ صَرَفَ الله قُلُوبَهُم ﴾ قال ابنُ عبَّاسٍ : عن كل رشد وخير وهدى وقال الحسن : طبع الله على قلوبهم. وقال الزجاج « أضلهم اللهُ تعالى مجازاةً على فعلهم ». ذلك :﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ﴾ عن الله دينه. قال ابنُ عبَّاسٍ : لا تقولُوا إذا صليتم انصرفنا من الصلاة فإنَّ قوماً انصرفوا؛ فصرف اللهُ قلوبهم، ولكن قولوا : قد قضينا الصلاة. والمقصود : التفاؤل بترك هذه اللَّفظة الواردة فيما لا ينبغي، والتَّرغيب في تلك اللفظةِ الواردة في الخير قال تعالى :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة ﴾ [ الجمعة : ١٠ ].
قوله تعالى :﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ الآية.
لمَّا أمر رسوله - ﷺ - أن يبلغ التكاليف الشاقَّة في هذه السورة إلى الخلق وهي مما يعسر تحملها؛ إلاَّ لمن خصَّه الله بالتوفيق، ختم هذه السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف، وهو أنَّ هذا الرسول منكم؛ فكلُّ ما يحصلُ له من العزّ والشَّرف، فهو عائدٌ إليكم فهو كالطبيب المشفق، والأب الرحيم في حقكم، وإن كان كذلك صارت تلك التكاليف، وتلك التأديبات جارية مجرى الإحسان.
قوله « مِّنْ أَنفُسِكُمْ » صفة ل « رسُول » أي : من صميم العربِ. قال ابنُ عباسٍ : ليس من العرب قبيلة إلاَّ وقد ولدت النبي ﷺ وله فيهم نسب. وقد قال رسول الله ﷺ « مَا ولدَنِي مِنْ سفاحِ أهْلِ الجاهليَّة شيءٌ، ما ولدَنِي إلاَّ نكاحٌ كنِكَاحِ الإِسلامِ ».
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ، وأبو العالية، والضحاك، وابن محيصن، ومحبوب عن أبي عمرو، والزهري، وعبدُ الله بن قسيط المكي، ويعقوبُ من بعض طرقه، وهي قراءةُ رسول الله ﷺ وفاطمة، وعائشة بفتح الفاء، أي : من أشْرفكُم، من النَّفاسة.

فصل


اعلم أنه تعالى وصف الرسول في هذه الآية بخمس صفات، أولها : قوله « مِنْ أنفُسِكُم » وفيه وجوه : أحدها : ما تقدم عن ابن عباس، والمراد منه : ترغيب العرب في نصرته والقيام بخدمته، أي : كلّ ما يحصل له من الدولة والرفع في الدنيا، فهو سبب لعزكم، فإنه منكم، ومن نسبكم. وثانياً : يريد أنه بشر مثلكم، كقوله


الصفحة التالية
Icon