فصل


معنى الآية :﴿ وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس ﴾ يعني : الكفار ﴿ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ ﴾ أي : راحة ورخاء من بعد شدة وبلاء.
وقيل : القطر بعد القحط، « مَسَّتْهُمْ » أي : أصابتهُم.
واعلم : أنَّ رحمة الله لا تُذاق بالفَمِ، وإنَّما تُذاق بالعقْلِ.
وقوله ﴿ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا ﴾ قال مجاهد : تكذيب واستهزاء، وسُمِّي التكذيبُ مكراً؛ لأنَّ المكر عبارةٌ عن صرف الشَّيءِ عن ظاهره بطريق الحيلة، وهؤلاء يحتالُون لدفع آيات الله - سبحانه وتعالى - بكل ما يقدرون عليه من إلقاء الشُّبْهَة، أو التَّخْليط في المناظرة، أو غير ذلك من الأمور الفاسدة.
وقال مقاتل : لا يقولون هذا من رزق الله، إنَّما يقولون سُقِينَا بِنَوء كذا، وهو كقوله :﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾ [ الواقعة : ٨٢ ].
وقوله :« في آيَاتِنَا » متعلقٌ ب « مَكْرٌ »، جعل الآيات محلاًّ للمكر مبالغة، ويضعف أن يكون الجارُّ صفةً ل « مَكْرٌ ».
قوله :﴿ قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً ﴾ « أسرَعُ » مأخوذٌ من « سَرُعَ » ثلاثياً؛ حكاه الفارسي.
وقيل : بل مِنْ « أسْرَع » وفي بناء أفعل وفِعْلى التعجُّب من « أفعل » ثلاثةُ مذاهب :
الجواز مطلقاً.
المنع مطلقاً.
التَّفصيلُ : بين أن تكون الهمزةُ للتَّعدية فيمتنع، أو لا فيجوز. وقال بعضهم :« أسْرَعُ » هنا ليست للتفضيل. وهذا ليس بشيءٍ، إذ السِّياق يردُّه، وجعله ابن عطيَّة - أعني كون أسرع للتَّفضيل - نظير قوله :« لَهِي أسودُ مِنَ »
قال أبو حيَّان :« وأما تنظيرُهُ » « أسود من القَار » ب « أسْرَع » ففاسد؛ لأنَّ « أسْوَد » ليس فعلهُ على وزن « أفْعَل »، وإنما هو على وزن « فَعِل » نحو : سَوِد فهو أسْود، ولم يمتنع التَّعجُّب، ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو : سَوِدَ، وحَمِرَ، وأدِمَ، إلاَّ لكونه لوناًن وقد أجاز ذلك بعضُ الكوفيين في الألوان مطلقاً، وبعضهم في السَّواد والبياض فقط «.
قال شهاب الدِّين : تنظيره به ليس بفاسدٍ؛ لأنَّ مراده بناءُ أفعل ممَّا زاد على ثلاثة أحرُف، وإن لم يكن على وزن »
أفْعَل «، و » سَوِد « وإن كان على ثلاثةٍ، لكنه في معنى الزَّائد على ثلاثة، إذ هو في معنى » أسْوَد «، و » حَمِرَ « في معنى أحْمَر؛ نصَّ على ذلك النحويُّون، وجعلوه هو العلَّة المانعة من التعجُّب في الألوان.
و »
مَكْراً « نصبٌ على التَّمييز، وهو واجبُ النَّصب؛ لأنَّكَ لو صُغْتَ من » أفْعَل « فعلاً، وأسندته إلى تمييزه فاعلاً، لصحَّ أن يقال :» سَرُع مَكْرُه «، وأيضاً فإنَّ شرط جواز الخفضِ، صِدْقُ التمييز على موصوفِ أفعل التَّفضيل، نحو :» زيدٌ أحسنُ فقيهٍ «، ومعنى » أسْرَعُ مَكْراً « : أعجل عُقُوبة، وأشدُّ أخذاً، وأقدر على الجزاء، أي : عذابه أسرع إليكم ممَّا يأتي منكم في دفع الحقِّ.


الصفحة التالية
Icon