وسيبويه يختارُ الرَّفْعَ.
قال : لأنَّهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً.
ولكنهم قيل لهم : لِمَ تَعِظُونَ؟
« فَقَالُوا » موعظتنا معذرةً.
والمَعْذِرَةُ : اسمُ مصدر وهو العذر.
وقال الأزهري : إنَّها بمعنى الاعتذارِ، والعذرُ : التَّنصلُ من الذَّنبِ.
قوله :﴿ فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ﴾ الضَّميرُ في نَسُوا للْمنهيِّينَ و « ما » موصولةٌ بمعنى « الذي » أي : فلمَّا نسُوا الوعظ الذي ذكَّرَهُم به الصَّالحون.
قال ابنُ عطيَّة : ويحتمل أن يُرادَ به الذِّكرُ نفسه، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر.
قال أبُو حيان : ولا يظهرُ لي هذان الاحتمالان.
قال شهابُ الدِّين : يعني ابنُ عطية بقوله :« الذِّكرُ نفسُهُ » أي : نفسُ الموصول مُرادٌ به المصدر كأنه قال : فلمَّا نسُوا الذِّكْرَ الذي ذُكِّروا به، وبقوله :« مَا كان فيه الذِّكر » نَفَسُ الشيء المذكَّر به الذي هو متعلِّق الذكر؛ لأن ابن عطيَّة لمَّا جعل « ما » بمعنى « الذي » قال : إنَّها تحتملُ الوقوع على هذين الشيئن المتغايرين.

فصل


النِّسيان يطلق على السَّاهي، والعامد التَّارك لقوله :﴿ فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ﴾ أي : تركوه عن قصد، ومنه قوله تعالى :﴿ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٦٧ ].

فصل


المعنى : فلمَّا تركوا ما وعظوا به، ﴿ أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ ﴾ أي الذين أقدموا على المعصية.
واختلف المفسِّرون في الفرقة السَّاكتة. فقنل عن ابن عبَّاسٍ : أنَّهُ توقَّف فيهم، ونقل عنه : هلكت الفرقتان ونجت النَّاهية، وكان ابنُ عباس إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : إنَّ هؤلاء الذين سكتوا عن النَّهي عن المنكر هلكوا، ونحن نرى أشياء ننكرها، ثم نسكت، ولا نقول شيئاً.
وقال الحسنُ : نجت الفرقتانِ، وهلكت العاصية، لأنهم لما قالوا :﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ ﴾ دلَّ على أنَّهُمْ أنكروا أشد الإنكار، وأنَّهُمْ إنَّما تركوا وعظهم؛ لأنه غلب على ظنهم أنهم لا يلفتون إلى ذلك الوعظِ.
فإن قيل : إن ترك الوعظِ معصية، والنَّهي عنه أيضاً معصية؛ فوجب دخول هؤلاء التَّاركين للوعظ النَّاهين عنه تحت قوله :﴿ وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ﴾.
فالجوابُ : هذا غير لازمٍ؛ لأنَّ النَّهي عن المنكر إنَّمَا يجب على الكفاية، ولو قام به البعضص سقط عن الباقين.
وروي عن ابن عبَّاس أنه قال : أسمعُ الله يقول :﴿ أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ﴾، فلا أدري ما فعلت الفرقة السَّاكتة؟
قال عكرمةُ : قلت له : جعلني اللَّهُ فداك، ألا تراهم قد أنكروا، وكرهوا ما هم عليه وقالوا :﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ ﴾، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل : أهلكتهم، فأعجبه قولي ورضي به، وأمر لي ببردين فكسانيهما؛ وقال : نَجتِ السَّاكتةُ، وهذا قول يمان بن رباب، والحسن، وابن زيد.
قوله :« بعذابٍ بئيسٍ ». أي : شديد.
قرا نافعٌ، وأبو جعفر، وشيبةٌ بيْسٍ بياء ساكنة، وابن عامر بهمزة ساكنة.


الصفحة التالية
Icon