انتهى، ويجوز أن يكون استثناءً متصلاً؛ لأنَّه إذ ذاك يكون فيهم قابليَّةُ الهداية، بخلافِ الأصنام، ويجوز أن يكون استثناء من تمامِ المفعول له، أي : لا يهدي لشيءٍ من الأشياء، إلاَّ لأجْل أن يُهْدَى بغيره.
قوله :« فَمَا لَكُمْ » : مبتدأ وخبر، ومعنى الاستفهام هنا : الإنكارُ والتعجُّبُ، أي : أيُّ شيءٍ لكم في اتِّخاذ هؤلاء؛ إذا كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم؟ وقد تقدَّم : أنَّ بعض النحويين نصَّ على أنَّ مثل هذا التركيب، لا يتمُّ إلاَّ بحالٍ بعده، نحو :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ ﴾ [ المدثر : ٤٩ ]، ﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ ﴾ [ المائدة : ٨٤ ] إلى غير ذلك، وهنا لا يمكن أن تقدَّر الجملةُ بعد هذا التركيب حالاً؛ لأنَّها استفهاميَّة، والاستفهاميَّة لا تقع حالاً.
وقوله :﴿ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ : استفهامٌ آخر، أي : كيْفَ تحكمُونَ بالباطل، وتجعلُون لله أنْداداً، وشُركاء؟.
فصل
المعنى :﴿ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي ﴾ : يرشد، « إِلَى الحق » فإذا قالوا : لا، ولا بدَّ لهم من ذلك ﴿ قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ ﴾ أي : إلى الحقِّ ﴿ أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى ﴾ أي : الله الذي يهدي إلى الحقِّ أحق بالاتِّباع، أم الصَّنم الذي لا يهتدي، إلاَّ أنْ يُهْدَى؟ فإن قيل : الأصنام جمادات لا تقبل الهداية، فكيف قال :﴿ إِلاَّ أَن يهدى ﴾، والصَّنَمُ لا يتصوَّر أن يهتدي، ولا أنْ يُهْدَى؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنَّ المراد من قوله :﴿ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ الأصنام، والمراد من قوله :﴿ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق ﴾ : رؤساء الكفر، والضلال، والدعاة إليهما؛ لقوله - تعالى - :﴿ اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله ﴾ [ التوبة : ٣١ ] إلى قوله :﴿ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ التوبة : ٣١ ] أي : أن الله - تعالى - هدى الخلق إلى الدِّين، بالدَّلائل العقليَّة، والنقليَّة، وهؤلاء الدُّعاة لا يقدرون أن يهدُوا غيرهم، إلاَّ إذا هداهم الله، فكان التَّمسك بدين الله، أولى من قُبُول قول هؤلاء الجهال.
وثانيها : أن معنى الهداية في حقِّ الأصنامِ : الانتقال، والهدى : عبارة عن النَّقل والحركة، يقال : أهديت المرأة إلى زوجها، إذا انتقلت إليها، والهَدْيُ : ما يُهْدى إلى الحرم من النَّعَم، وسميت الهديَّةُ هديَّة؛ لانتقالها من شخص إلى غيره، وجاء فلان يهادى بين رجلين، إذا كان يمشي مُعْتمداً عليهما؛ لضعفه وتمايله. وإذا ثبت ذلك فالمرادُ : أنَّه لا ينتقل من مكان إلى مكان، إلاَّ أن يحمل وينقل بين عجز الأصنام.
وثالثها : أنه ذكر الهداية على وجه المجاز؛ لأنَّ المشركينَ لمَّا اتَّخذُوا الأصنام آلهةً، وأنَّها لا تشفع لهم في الآخرة، وأنَّهم نزَّلُوها منزلة من يعقل، فلذلك عبَّر عنها كما يُعبَّر عمَّن يعلم ويعقل.