قوله :« قُلْ فَأْتُواْ » : جواب شرطٍ مقدَّر، قال الزمخشري :« قُلْ : إنْ كان الأمرُ كما تزعمون، فأتُوا أنتم على وجْهِ الافتراءِ بسورةٍ مثله، فأنتم مثلي في العربيَّة، والفصاحة، والأبلغيَّة ».
وقرأ عمرو بن فائد :« بسُورَةِ مثلِهِ » بإضافة « سُورة » إلى « مِثلِهِ » على حذف الموصول، وإقامة الصِّفة مقامه، والتقدير : بسورة كتاب مثله، أو بسُورة كلام مثله، ويجُوز أن يكون التقديرُ : فأتُوا بسورةِ بشر مثله، فالضَّمير يجوز أنْ يعُود في هذه القراءةِ على ا لقرآنِ، وأن يعود على النبي ﷺ، وأمَّا في قراءة العامَّة؛ فالضمير للقرآن فقط.
فإن قيل : لِمَ قال في البقرة :﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٣ ]، وقال هنا :« فأتُوا بسُورةٍ مثلهِ » ؟.
فالجواب : أنَّ محمداً - ﷺ - كان أمِّيّاً، لم يتلمذْ لأحدٍ، ولم يُطالع كتاباً فقال في سورة البقرة :« مِن مثله » أي : فلْيَأتِ إنسان يساوي محمَّداص في هذه الصِّفات، وعدم الاشتعال بالعُلُوم، بسورة تُسَاوي هذه السُّورة، وحيث لا يقدرُون على ذلك؛ فظهور مثل هذه السُّورة من إنسان مثل محمَّد - ﷺ -، في عدم التتلمذ والتَّعلم، يكون معجزاً.
وهُنا بيَّن أن السُّورة في نفسها مُعجزةٌ في نفسها؛ فإنَّ الخلق وإن تتلمذُوا وتعلَّمُوا؛ فإنَّه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سُورة واحدة من هذه السور؛ فلذلك قال - تعالى - ههنا :« فأتُوا بسُورةٍ مثلِهِ ».
فصل
تمسَّك المعتزلة بهذه الآية : على أنَّ القرآن مخلوقٌ؛ قالوا : إنَّه - ﷺ - تحدَّى العرب بالقرآن؛ والمراد بالتَّحدِّي : أنَّه يطلب الإتيان بمثله منهم؛ فإذا عجزوا عنه، ظهر كونه حجَّة من عند الله - تعالى -، دالَّة على صدقه، وهذا إنَّما يمكن، إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة، ولو كان القرآنُ قديماً؛ لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر؛ فوجب ألا يصحَّ التَّحدِّي به.
وأجيبُوا : بأنَّ القرآنَ اسمٌ يقال بالاشتراك على الصِّفة القديمة، القائمة بذات الله - تعالى -، وعلى هذه الحروف والأصوات، ولا نزاع في أنَّ هذه الكلمات المركَّبَة من هذه الحروف والأصوات، محدثة مخلوقة، والتَّحدي إنما وقع بها لا بالصِّفة القديمة.
ثم قال تعالى :﴿ وادعوا مَنِ استطعتم ﴾ : ممَّنْ تعبدُون ﴿ من دُونِ اللهِ ﴾ ليُعينُوكُم على ذلك، ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ في أنَّ محمداً افتراه، والمراد منه : كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة، لو كانوا قادرين عليها وتقريره : أنَّ الجماعة إذا تعاونت، وتعاضدت، صارت تلك العقول الكثيرة، كالعقل الواحد، فإذا توجَّهُوا نحو شيءٍ واحدٍ، قدر مجموعهم على ما يعجز عنه كل واحد عند انفراده، فكأنَّه - تعالى - يقول : هَبْ أنَّ عقل الواحد، والاثنين منكم، لا يفي باستخراج معارضة القرآن، فاجتمعوا، وليعن بعضكم بعضاً في هذه المعارضة، فإذا عرفتُم عجزم حالة الاجتماع، وحالة الانفراد عن هذه المعارضة، فحينئذٍ : يظهر أنَّ تعذر هذه المعارضة، إنما كان لأنَّ قدرة البشرِ عاجزةٌ عنها؛ فحينئذٍ يظهر أنَّ ذلك فعل الله، لا فعل البشر.