فظهر بما تقرَّر : أنَّ مراتب تحدِّي رسول الله ﷺ بالقرآن ستٌّ :
أولها : أنَّهُ تحدَّاهُم بكلِّ القرآن، في قوله :﴿ قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ].
وثانيها : أنَّه - ﷺ - تحدَّاهم بعشر سورٍ، في قوله :﴿ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ [ هود : ١٣ ].
وثالثها : أنَّه تحدَّاهم بسورة واحدة، في قوله :﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ﴾ [ يونس : ٣٨ ].
ورابعها : تحدَّاهم بحديث مثله، في قوله ﴿ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ﴾ [ الطور : ٣٤ ].
وخامسها : أنَّ في تلك المراتب الأربع، كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجُلٌ، يساوي رسول الله في عدم التتلمذ والتعليم، ثُمَّ في سورة يونس : طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان، سواء تعلَّم العلوم، أو لم يتعلَّمها.
وسادساً : أنَّ في المراتب المتقدِّمة تحدَّى كل واحد من الخلق، وفي هذه المرتبة تحدَّى مجموعهم، وجوَّز أن يستعين البعضُ بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة، كما قال :﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ﴾ [ يونس : ٣٨ ]، فهذا مجموع الدَّلائل التي ذكرها الله - تعالى - في إثبات أنَّ القرآن معجزٌ، ثُمَّ إنَّه - تعالى - ذكر السبب الذي لأجله كذَّبُوا القرآن.
فقال :﴿ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ ﴾ يعني : كذَّبُوا بالقرآن، ولم يحيطوا بعلمه.
قوله :﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ : جملةٌ حاليةٌ من الموصول، أي : سارعُوا إلى تكذيبه حال عدم إتيان التأويل، قال الزمخشري :« فإن قلت : ما معنى التوقُّع في قوله - تعالى - :﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ ؟ قلت : معناه : كذَّبُوا به على البديهة، قبل التَّدبرُّر، ومعرفة التأويل »، ثمَّ قال أيضاً :« ويجُوزُ أن يكون المعنى : ولم يأتهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب، أي : عاقبته حتى يتبيَّن لهم : أكذبٌ هو، أم صدقٌ ». انتهى.
وفي وضعه « لَمْ » موضع « لمَّا » نظرٌ لما عرفت ما بينهما من الفرق، ونُفيتْ جملةُ الإحاطة ب « لم »، وجملة إتيانِ التأويل ب « لمَّا » ؛ لأنَّ « لَمْ » للنَّفْي « المطلق على الصَّحيح، و » لمَّا « لنفي الفعل المُتَّصل بزمنِ الحالِ، فالمعنى : أنَّ عدمَ التَّأويلِ متَّصل بزمن الإخبار.

فصل


قيل المعنى : بل كذَّبُوا بالقرآن ﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ أي : عاقبةُ ما وعد الله في القرآن؛ أنَّه يئول إليه أمرهم من العقوبة، يريد : أنَّهم لم يعلمُوا ما يئول إليه عاقبة أمرهم.


الصفحة التالية
Icon