قال الزمخشري :« فإن قلت : كأنْ لمْ يلبثُوا إلاَّ ساعة »، و « يتَعارفُونَ » كيف موقعهما؟
قلت : أمَّا الأولى : فحالٌ منهم، أي : يَحْشُرهم مُشبهين بمنء لَمْ يَلْبَثْ إلاَّ ساعة.
وأمَّا الثانية : فإمَّا أن تتعلَّق بالظرف - يعني فتكون حالاً -، وإمَّا أن تكون مُبينة لقوله :﴿ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً ﴾ ؛ لأنَّ التَّعارفَ لا يَبْقَى مع طُولِ العهدِ، وينقلب تَنَاكُراً «.

فصل


في هذا التَّعارف وجوه :
الأول : يعرف بعضهم بعضاً كما كانوا في الدُّنْيَا.
الثاني : يعرف بعضهم بعضاً بما كانوا عليه من الخطأ والكفر، ثم تنقطع المعرفةُ إذا عاينُوا العذابَ، وتبرَّأ بعضهم من بعض.
فإن قيل : كيف توافق هذه الأشياء قوله :﴿ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ﴾ [ المعارج : ١٠ ].
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنَّهم يتعارفون بينهم بتوبيخ بعضهم بعضاً؛ فيقول كل فريق للآخر : أنت أضللتني يوم كذا، وزيَّنتَ لي الفعل القبيح الفُلاني، فهو تعارفُ توبيخٍ، وتباعدٍ، وتقاطع، لا تعارف عطفٍ، وشفقة.
وأما قوله :﴿ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ﴾ [ المعارج : ١٠ ] فهو سؤال رحمة، وعطف.
والثاني : أنَّ تحمل هاتين الآيتين على حالتين؛ وهو أنَّهم يتعارفُون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة؛ فلذلك لا يسأل حميمٌ حميماً.
قوله :»
قَدْ خَسِرَ « فيها وجهان :
أحدهما : أنَّها مستأنفةٌ، أخبر - تعالى - بأنَّ المكذِّبينَ بلقائِهِ خاسرون لا محالة؛ ولذلك أتى بحرفِ التَّحقيق، ويكون هذا شهادة عليهم من الله بالخُسْرَان، والمعنى : أنَّه من باع آخرته بدنياه، فقد خسر؛ لأنَّه أعطى الشَّريف الباقي، في أخْذِ الخسيسِ الفانِي.
والثاني : أن يكون في محلِّ نصبٍ بإضمار قولٍ، أي : قائلين قد خَسِر الذين. ثُمَّ لكَ في هذا القول المقدَّر وجهان :
أحدهما : أنه حالٌ من مفعول »
يَحْشُرهُم « أي : يحشرهم قائلين ذلك.
والثاني : أنَّه حالٌ من فاعل »
يتعَارفُونَ «، وقد ذهب إلى الاستئناف والحاليَّة من فاعل » يَتَعارفُونَ « : الزمخشريُّ؛ فإنَّه قال :» هو استئنافٌ فيه معنى التَّعجُّب، كأنَّه قيل :« ما أحْشرهُمْ »، ثم قال :« قَدْ خَسِرَ » على إرادة القولِ، أي : يَتَعَارفُونَ بينهم قائلين ذلك «، وذهب إلى أنَّها حالٌ من مفعُول » يَحْشُرهُم « : ابنُ عطيَّة.
قوله :﴿ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ يجوزُ فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون معطوفةً على قوله :»
قَدْ خَسِرَ «، فيكون حكمه حكمَهُ.
والثاني : أن تكون معطوفةً على صلةِ »
الذينَ «، وهي كالتَّوكيد للجملة التي وقعتْ صلةً؛ لأنَّ من كذَّب بلقاء الله، غيرُ مُهْتَدٍ، والمراد بالخسران : خُسْران النفس ولا شيء أعظم منه.
قوله :﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ ﴾ تقدَّم الكلامُ على »
إِمَّا « هذه [ البقرة٣٨ ]، وقال ابن عطيَّة :» ولأجلها، أي : لأجلِ زيادةِ « ما »، جاز دخولُ النون الثقيلة، ولو كانت « إِنْ » وحدها لم يَجُزْ « أي : إنَّ توكيد الفعل بالنُّونِ مشروطٌ بزيادة » ما « بعد » إنْ «، وهو مخالفٌ لظاهرِ كلام سيبويه، وقد جاء التَّوكيد في الشَّرط بغير » إنْ « ؛ كقوله :[ الكامل ]


الصفحة التالية
Icon