قوله :« ودَرَسُوا » فيه ثلاثةُ أوجه، أظهرُها ما قاله الزمخشريُّ : وهو كونُه معطوفاً على قوله :« ألَمْ يُؤخَذْ » ؛ لأنَّهُ تقرير.
فكأنه قيل : أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا، نظيره قوله تعالى :﴿ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٨ ] معناه : قد رَبَّيْنَاك ولَبِثْتَ.
والثاني : أنَّهُ معطوف على « وَرِثُوا ».
قال أبُو البقاءِ : ويكونُ قوله ألَمْ يُؤخَذْ معترضاً بينهما وهذا الوجه سبقه إليه الطَّبري وغيره.
الثالث : أنه على إضمار « قَدْ » والتقدير : وقد درسوا. فهو على هذا منصوب على الحال نسقاً على الجملة الشرطية، أي : يقولون : سَيُغْفَرُ لنا في هذه الحال، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل :« يَأخُذُوهُ » أي يأخذون العرضَ في حال دَرْسِهم ما في الكتاب المانع من أخذ الرِّشَا وعلى كلا التقديرين فالاستفهامُ اعتراض.
وقرأ الجحدري : أن لا تقُولُوا بتاء الخطابِ، وهو التفاتٌ حسنٌ.
وقرأ علي - رضي الله عنه - وأبو عبد الرحمن السلمي وادَّارَسُوا بتشديد الدَّالِ، والأصلُ : تَدَارَسُوا وتصريفه كتصريف ﴿ فادارأتم فِيهَا ﴾ [ البقرة : ٧٢ ] وقد تقدم.
ثم قال تعالى :﴿ والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ أي : من تلك الرَشوة الخبيثة المحقرة « فلا تَعْقِلُونَ ». وقد تقدَّم الكلام على هذه الهمزة والفاء غير مرة.
وقرأ ابنُ عامرٍ ونافعٌ وحفصٌ تَعْقِلُونَ بالخطابِ، والباقون بالغيبة، فالخطابُ يحتمل وجهين : أحدهما : أنه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، والمرادُ بالضَّمائر حينئذٍ شيءٌ واحد.
والثاني : أنَّ الخطابَ لهذه الأمَّةِ، أي : أفلا تعلقون أنتم حال هؤلاء وما هم عليه وتتعَجَّبُونَ من حالهم. وأمَّا الغيبةُ فجرى على ما تقدَّم من الضَّمائر، ونقل أبو حيان أنَّ قراءة الغيبة لأبي عمرو وأهل مكَّة، وقراءة الخطاب للبقاقين.
قوله :« والَّذينَ يُمَسِّكُون » : فيه وجهان : أظهرهما : أنَّهُ مبتدأ، وفي خبره حينئذ وجهان : أحدهما : الجملة من قوله ﴿ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين ﴾ وفي الرَّابط حينئذ أقوال :
أحدها : أنَّهُ ضميرٌ محذوف لفهم المعنى، والتقدير : المُصْلحين منهم، وهذا على قواعد جمهور البصريين، وقواعد الكوفيين تقتضي أنَّ « ألْ » قائمةٌ مقام الضمير، تقديره : أجْرَ مَصْلحيهمْ؛ كقوله :﴿ فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى ﴾ [ النازعات : ٤١ ] أي : مَأواهُ، وقوله ﴿ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب ﴾ [ ص : ٥٠ ] أي : أبوابُها، وقوله :﴿ في أَدْنَى الأرض ﴾ [ الروم : ٣ ] أي : أرضهم، إلى غير ذلك.
والثاني : أنَّ الرَّابطَ تكرُّرُ المبتدأ بمعناه، نحو : زيد قام أبو عبد الله، وهو رأي الأخفش، وهذا كما يُجيزه في الموصول، نحو : أبُو سعيدٍ الذي رويتُ عنه الخُدريُّ، والحجَّاجُ الذي رأيْتُ ابنُ يُوسُفَ، وقد تقدَّم من ذلك شواهدُ.
الثالث : أنَّ الرَّابط هو العموم في « المُصْلحينَ » قاله أبُو البقاء.
قال :« وإن شئْتَ قلت : لمَّا كان المصلحون جنساً والمبتدأ واحد منه استغنيت عن ضمير ».


الصفحة التالية
Icon