التأويل الخامس : نقل عن الحسن أنَّه قال : إنَّ من الكفار من بالغ في كُفره، وانتهى إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه، فالمراد من قوله :﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ﴾ هؤلاء.

فصل


المُرضادُ من الصَّرْفِ المَنْع، والمُرَادُ بالآيات : الآياتُ التسع الَّتي أعطاها اللَّهُ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - والأكثرون على أنَّ الآية عامَّة. ومعنى « يَتَكَبَّرُونَ » : أي : يَرَوْنَ أنَّهُم أفضل الخَلْقِ، وأن لهم من الحقِّ ما ليس لغيرهم، وصفةُ التَّكبر لا تكون إلا للَّهِ تعالى.
وقال بعضهم : التَكَبر : إظهار كبر النَّفْسِ على غيرها، والتَّكبر صِفَةُ ذمٍّ في جميع العبادِ وصفةُ مدحٍ في حقِّ الله تعالى؛ لأنَّهُ يستحقُّ إظهار الكبر على ما سواه؛ لأنَّ ذلك في حقه حَقٌّ، وفي حق غيره باطل.
قال عليه الصَّلاةُ والسَّلام يقولُ اللَّهُ تعالى : الطِبْريَاءُ رِدائِي والعظمةُ إزَارِي، فمنْ نَازَعنِي فيهما حَرَّمْتُ عليه الجنَّة «.
قوله :»
بِغَيْرِ الحَقِّ « فيه وجهان :
أحدهما : أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ، أي : يَتَكَبَّرُونَ ملتبسين بغير الحقِّ.
والثاني : أنه متعلِّق بالفعلِ قبله، أي : يتكبرون بما ليس بحق، والتَّكَبُّرُ بالحقِّ لا يكونُ إلاَّ لِلَّهِ تعالى خاصَّة.
قال بعضهم : وقد يكون إظْهَارُ الكبرِ على الغَيْرِ بالحقِّ، فإنَّ للمحقّ أن يتكبَّرَ على المُبْطِلِ وفي الكلامِ المشهور : التَّكبر على المتكبر صدقةٌ.
قوله :»
وإن يَرَوْا الظَّاهرُ أنَّها بصريَّةٌ، ويجوزُ أن تكون قلبية، والثَّاني محذوفٌ لِفَهْمِ المعنى : كقول عنترة :[ الكامل ]
٢٥٧٤ - وَلَقَدْ نَزلْتِ فلا تَظُنِّي غَيْرَهُ مِنِّي بِمنْزِلَةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
أي : فلا تظني غيره واقعاً مني، وكذا الآية الكريمة، أي : وإن يَرَوْا هؤلاء المتكبرين كل آية جائية، أو حادثة. وقرأ مالك بن دينارٍ « وإن يُرَوْا » مبنياً للمفعول من أري المنقول بهمزة التعدية.
قوله :« سَبِيلَ الرُّشْدِ » قرأ حمزة والكسائي هنا وأبُو عمرو في الكهف في قوله :﴿ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ﴾ [ الكهف : ٦٦ ] خاصة دون الأولين فيها بفتحتين، والباقون بضمة وسكون واختلف النَّاسُ فيهما هل هما بمعنى واحد.
فقال الجمهور نعم لغتان في المصدر كالبُخْلِ والبَخَل، والسُّقْم والسَّقَم، والحُزْن والحَزَن.
وقال أبُو عمرو بن العلاءِ :« الرُّشْدُ - بضمة وسكون - الصَّلاحُ في النَّظر، وبفتحتين الدِّين » ولذلك أجمع على قوله :﴿ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً ﴾ [ النساء : ٦ ] بالضمِّ والسُّكثون، وعلى قوله ﴿ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً ﴾ [ الجن : ١٤ ] بفتحتين.
ورُوي عن ابن عامر « الرُّشُد » بضمتين وكأنَّهُ من باب الإتباع، كاليُسُر والعُسُر وقرأ السلمي الرَّشَاد بألف فيكون : الرُّشْد والرَّشَد والرَّشَاد كالسُّقْم والسَّقَم والسَّقَام.
وقرأ ابنُ أبي عَبْلَة لا يتَّخِذُوَها، ويتَّخِذُوها بتأنيث الضَّمير، لأنَّ السبيل يَجُوزُ تأنيثُها.
قال تعالى :﴿ قُلْ هذه سبيلي ﴾ [ يوسف : ١٠٨ ]. والمُرادُ بسَبيل الرُّشْدِ سبيل الهدى والدين، وسَبيلَ الغَيِّ ضد ذلك. ثُمَّ بيَّن العلة لذلك الصَّرف، وهو كونهم مُكّذِّبينَ بآياتِ اللَّهِ، وكونهم عنها غافلين أي معرضين، أي : أنَّهم واظبوا على الإعراضِ حتى صَارُوا بِمَنْزلةِ الغافلينَ عَنْهَا.


الصفحة التالية
Icon