والثاني : يقتضي أن يقال إن الإنسان حصلت له الحياة أربع مرات : وقت الميثاق، وفي الدُّنْيَا، وفي القبر، وفي القيامةِ وأنه حصل له الموت ثلاث مرات : بعد الحياة الحاصلة من الميثاق الأولِ، وموت في الدُّنيا وموت في القبر، وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى :﴿ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين ﴾ [ غافر : ١١ ].
الحادي عشر : لو كان القولُ بهذا الذَّرِّ صحيحاً لكان ذلك الذَّر هو الإنسان؛ لأنَّهُ هو المكلَّف المخاطب المثاب المعاقب، وذلك باطلٌ؛ لأنَّ ذلك الذّر غير مخلوق من النطفة والعلقة، والمضغة، والقرآن يدلُّ على أنَّ الإنسان خلق من النُّطفةِ، والعلقة. قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ﴾ [ المؤمنون : ١٢ ] الآيات.
وقوله :﴿ قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ﴾ [ عبس : ١٧ - ١٩ ] فهذه الوجوه دلَّتْ على ضعف هذا القول.
وقال أربابُ المعقولات : إنَّ الله تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من صلب آبائهم، وذلك الإخراج حال كونهم نطفاً، فأخرجها الله تعالى فأودعها أرحام الأمهَّات، وجعلها علقة ثم مضغة حتى جعله بشراً سويّاً وخلقا كاملاً ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيَّته، وغرائب صنعته، فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا : بلى، وإن لم يكن هناك قول باللِّسانِ، ولذلك نظائر منها قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [ النحل : ٤٠ ].
وقال تعالى :﴿ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ ﴾ [ فصلت : ١١ ].
قول العرب : قال الجدار للوتدِ لِمَ تَشقُّنِي قال : سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي.
وقال الشاعر :[ الرجز ]
٢٦١٧ - امتلأ الحَوْضً وقَالَ قَطْنِي | مَهْلاً رُوَيْداً قَدْ مَلأتَ بَطْنِي |
فصل
قال القرطبيُّ : استدلَّ بهذه الآية على أنَّ مَنْ مات صغيراً دخل الجنَّة لإقراره في الميثاق الأول ومنْ بلغ لمْ يُغنِهِ الميثاق الأول.
قوله « مِنْ ظُهُورهِمْ » بدل من قوله :« مِن بَنِي آدَمَ » بإعادةِ الجارِّ، كقوله :﴿ لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ ﴾ [ الزخرف : ٣٣ ] ﴿ لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ﴾ [ الأعراف : ٧٥ ] وهل هو بدلُ اشتمال أو بدلُ بعض من كل؟ قولان :
الأول لأبي البقاء، والثاني للزمخشري، وهو الظاهر كقولك : ضربتُ زيداً ظهره وقطعتُه يده، لا يُعْرِب هذا أحد بدل اشتمالٍ، و « ذُرِّيَتَهُمْ » مفعول به.
وقرأ الكوفيون وابن كثير ذُرِّيتهُمْ بالإفراد، والباقون « ذُرِّيَّاتهم » بالجمع.
قال أبو حيان : ويحتمل في قراءة الجمع أن يكون مفعولُ « أخذ » محذوفاً لفهم المعنى وذُرِّيَّاتهم بدلٌ من ضمير « ظُهُورِهِمْ » كما أنَّ من ظُهُورِهِمْ بدلٌ من بَنِي آدَمَ والمفعولُ المحذوفُ هو الميثاق كقوله :﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾ [ النساء : ١٥٤ ].
قال : وتقديرُ الكلامِ : وإذ أخذ ربُّكَ من ظهور ذُرِّيات بني آدم ميثاق التوحيد لله، واستعارَ أن يكون أخذ الميثاق من الظهر كأن الميثاق لصعوبته والارتباط به شيءٌ ثقيلٌ يحمل على الظَّهْرِ.