وكذلك قرأ الكوفيُّون وابن كثير في سورة يس، وفي الطُّورِ في الموضعين ذُرِّيَّتَهُم بالإفراد؛ وافقهم أبو عمرو على ما في يس، وناف وافقهم في أول الطور، وهي ذُرِّيَّتَهُم بإيمانٍ دون الثانية، وابن عامر على الجمع، وأبو عمرو ونافع جمعوا بين الأمرين.
قال أبو حيان في قراءة الإفراد في هذه السُّورةِ : ويتعيَّن أن يكون مفعولاً ب « أخذ » وهو على حذف مضاف، أي : ميثق ذريتهم. يعني أنه لم يَجُزْ فيه ما جازَ في ذُرِّيَاتهم من أنَّه بدل، والمفعولُ محذوف وذلك واضحٌ؛ لأنَّ من قرأ :« ذُرِّيَّتَهُمْ » بالإفراد لم يَقْرَأهُ إلاَّ منصوباً، ولو كان بدلاً من هُمْ في ظُهُورِهِمْ لكان مجرورً، بخلاف ذُرِّيَّاتهم بالجمع فإنَّ الكسرة تَصْلُح أن تكون علامة للجر وللنصب في جمع المُؤنَّثِ السَّالمِ.
قال الواحديُّ : الذرية تقع على الواحِدِ والجمع، فمنْ أفردَ فقد استغنى عن جمعه بوقوعه على الجمع كالبشر فإنه يقع على الواحد، كقوله :﴿ مَا هَذَا بَشَرًا ﴾ [ يوسف : ٣١ ] وعلى الجمع، كقوله :﴿ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ﴾ [ التغابن : ٦ ] ﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا ﴾ [ إبراهيم : ١٠ ] فكما لم يجمع « بشر » جمع تصحيح، ولا تكسير كذلك لا يجمع « الذريَّة ».
ومن جمع قال : إنَّ الذرية وإن كان واحداً فلا إشكال في جواز الجمع فيه، وإن كان جمعاً فجمعه حسن، لأنَّ الجموع المكسرة قد معت نحو : الطرقات والجدرات.
قوله :﴿ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ ﴾.
أمَّا على قولِ مَنْ أثْبَتَ الميثاق الأوَّل فكل هذه الأشياء محمولة على ظواهرها، وأمَّا من أنكره، قال : إنَّهَا محمولة على التَّمثيل، أي : أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته، وشهدت بها عقولهم، فصار ذلك جارياً مجرى ما إذَا أشهدهم على أنفسهم، وقال لهم :﴿ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾. وكأنهم قالوا بلى أنت ربُّنَا.
قوله :« بَلَى » جواب :« ألَسْتُ ».
قال ابنُ عبَّاس : لو قالوا « نَعَمْ » لكفروا، يريد أنَّ النَّفيَ إذا أجيب ب « نعم » كان تصديقاً له، فكأنهم أقَرُّوا بأنه ليس بربهم، هكذا ينقلونه عن ابن عباس.
وفيه نظرٌ - إن صحَّ عنه - وذلك أن هذا النفي صار مُقرَّراً، فكيف يكفرون بتصديق التقرير؟ وإنَّما المانعُ من جهةِ اللغة، وهو أنَّ النفيَ مطلقاً إذا قُصدَ إيجابه أجيب ب « بَلَى » وإن كان مقرراً بسبب دخول الاستفهام عليه، وإنَّما كان ذلك تغليباً لجانب اللفظ، ولا يجوز مراعاةُ جانب المعنى إلاَّ في شعر، كقوله :[ الوافر ]
٢٦١٨ - ألَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أمَّ عَمْرٍو | وإيَّانَا فَذاكَ بِنَا تَدَأنِي |
نَعَمْ وأرَى الهلالَ كما تَرَاهُ | ويَعْلُوهَا النَّهارُ كَمَا عَلانِي |