فلمَّا كان هو الخالقُ للدَّاعية الموجبة للكفر فقد خلقه للنَّارِ قطعاً، وأيضاً : لو خلقه اللَّهُ تعالى للجنَّةِ وأعانه على اكتساب ما يوجب دخول الجنَّةِ، ثم قدرنا أنَّ العبد سعى في تحصيل الكُفْرِ الموجب لدُخُولِ النَّارِ، فحينئذٍ حصل مُرَادُ العبدِ، ولم يحصل مرادُ اللَّهِ تعالى فلزمَ كون العبد أقدر وأقوى من اللَّهِ، وذلك لا يقوله عاقلٌ، وأيضاً : إنَّ العاقلَ لا يريدُ الكُفْرَ والجهل الموجب لاستحقاق النار، وإنما يريدُ الإيمان والمعرفة الموجبة لاستحقاق الجنَّةِ فلما حصل الكفر، والجهل على خلاف قصد العبد وضد جدّه واجتهاده؛ وجب أن لا يكون حصوله من قبل العبد، بل يجبُ أن يكون حصوله من الله تعالى.
فإن قيل : العبْدُ إنَّما سعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الفَاسِد؛ لأنَّهُ اشتبه عليه الأمر وظن أنه الحقُّ الصَّحيحُ.
فنقولُ : فعلى هذا التقدير إنَّما وقع في هذا الجَهْلِ لأجل ذلك الجَهْلِ المتقدِّم، فإن كان إقدامه على ذلك الجهل السَّابق لجهل آخر سابق، لزم التسلسل، وهو محال، وإن انتهى إلى جهل حصل ابتداء لا لسابقة جهل آخر، فقد توجه الإلزام.
قالت المعتزلة : لا يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم، لأن كثيراً من الآيات دلت على أنه تعالى أراد من الكل الطاعة والعبادة.
قال تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله ﴾ [ النساء : ٦٤ ] وقال :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ ﴾ [ الفرقان : ٥٠ ] وقال :﴿ هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور ﴾ [ الحديد : ٩ ].
وقال :﴿ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط ﴾ [ الحديد : ٢٥ ].
وقال ﴿ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾ [ إبراهيم : ١٠ ].
وقال :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ] وأمثال هذه الآيات كثيرة. ونحن نعلم بالضَّرورة أنه لا يجوز وقوع التناقض في القرآن، فعلمنا أنَّه لا يُمْكنُ حَمْلُ قوله :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس ﴾ على ظاهره.
الثاني : أنه تعالى قال بعدها :﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ﴾ ذكر ذلك في معرض الذم لهم، ولو كانوا مخلوقين للنَّارِ ما كانُوا قادرين على الإيمان ألبتة وعلى هذا : فيقبح ذمُّهُم على تركِ الإيمان.
الثالث : أنَّه تعالى لو خلقهم للنَّارِ لما كان له على أحد من الكُفَّارِ نعمة أصلاً؛ لأنَّ منافع الدُّنيا بالنسبة إلى العذاب الدائم، كالقطرة في البحر، وكان كمن دفع إلى إنسان حلوى مسمومة فإنَّه لا يكون منعماً عليه، فكذا ههنا، ولمَّا كان القرآن مملُوءاً من كثرة نعم الله على كل الخَلْق علمنا أنَّ الأمر ليس كما ذكرتم.
الرابع : أنَّ المَدْحَ والذَّمَّ، والثَّواب والعقاب، والترغيب والترهيب، يبطل هذا المذهب الذي ينصرونه.
الخامس : لو خلقهم للنَّارِ، لوجب أن يخلقهم ابتداء في النَّارِ؛ لأنَّه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم.