السادس : أن قوله :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ﴾ متروك الظَّاهر، لأنَّ جهنَّم اسم للموضع المعين، ولا يجوز أن يكون الموضع المعيَّن مراداً منه، فثبت أنه لا بد وأن يقال : إن ما أراد الله لخلقه منهم محذوف. وكأنَّهُ قال : وقد ذَرَأنَا لكي يكفروا، فيدخلوا جهنم، فصارت الآية متروكة الظَّاهر، فيجب بناؤها على قوله :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ] لأن ظاهرها يصح بدون حذف.
السابع : أنه إذا كان المرادُ أنَّهُ ذرأهم لكي يكفروا، فيصيروا إلى جهنم، عاد الأمر في تأويلهم إلى أن هذه اللاَّم لام العاقبة، لكنهم يجعلونها للعاقبة مع أنَّهُ لا استحقاق للنَّار ونحن قد تأولناها على عاقبة حاصلة مع استحقاق النار. فكان قولنا أولى.
فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها، فوجب المصير إلى التأويلن، وتقريره : أنه لما كانت عاقبة كثيرة من الجن والإنس هي دخول النَّارِ. جاز ذكر هذه اللاَّم بمعنى العاقبة.
ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والشِّعر.
أمَّا القرآنُ فقوله تعالى :﴿ وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ ﴾ [ الأنعام : ١٠٥ ].
ومعلوم أنه تعالى ما صرفها ليقولوا ذلك؛ لكنَّهم لمَّا قالُوا ذلك حسن ورود هذا اللفظ.
وقال تعالى :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ ﴾ [ يونس : ٨٨ ].
وقال :﴿ فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ [ القصص : ٨ ]. ولم يلتقط لهذا الغرض، إلاَّ أنه لمَّا كانت عاقبة أمرهم ذلك حسن هذا اللفظ.
وأما الشعر فقوله :[ الطويل ]
٢٦٣١ - ولِلْمَوْتِ تَغْذُوا الوالِدَاتُ سِخَالَهَا | كَمَا لِخَرابِ الدُّور تُبْنَى المَسَاكِنُ |
وقال :[ البسيط ]
٢٦٣٢ - أمْوالُنَا لِذَوي الميراثِ نَجْمَعُهَا | ودُورنا لِخرابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا |
وقال :[ الوافر ]
٢٦٣٣ - لَه مَلكٌ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ | لِدُوا للْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرَابِ |
وقال :[ المتقارب ]
٢٦٣٤ - فأُمَّ سِمَاكٍ فلا تَجْزَعِي | فَلِلموتِ ما تَلِدُ الوالِدَة |
هذا منتهى كلام المعتزلة.
واعلم أنَّ المصير إلى التَّأويل إنَّما يَحْسُنُ إذا ثبت بالدَّليلِ العقليِّ امتناع حمل هذا اللَّفْظِ على ظاهره، وقد بيَّنَّا بالدليل العقليِّ أن الحقِّ ما دل عليه ظاهر اللفظ، فصار التَّأويل ههنا عبثاً، وأمَّ الآياتُ التي تمسكوا بها فمعارضة بالبحار الزاخرة من الآيات الدالة على مذهب أهل السُّنَّةِ، ومن جملتها ما قبل هذه الآية :
﴿ مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون ﴾ [ الأعراف : ١٧٨ ] وما بعدها، وهو قوله :
﴿ والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ ولمَّا كان ما قبل هذه الآية وما بعدها ليس إلاَّ ما يُقوى قولنا كان تأويل المعتزلة في هذه الآية ضعيفاً جداً.
قوله :
« لَهُمْ قُلُوبٌ » جملة في محلِّ نصب إمَّا صفةً ل
« كِثيراً » أيضاً، وإمَّا حالاً من :
« كثيراً » وإن كان نكرة لتخَصُّصه بالوصفِ، أو من الضمير المستكن في مِنَ الجِنِّ؛ لأنَّهُ تحمل ضميراً، لوقوعه صفة، ويجوز أن يكون لَهُمْ على حدته هو الوَصْفُ، أو الحالُ، وقُلُوبٌ فاعل به فيكون من باب الوصف بالمفرد، وهو أولى.