وقوله :« لا يَفْقَهُونَ بِهَا » وكذلك الجملةُ المنفيَّة في محلِّ النَّعْتِ لما قبلهان وهذا الوصفُ يكادُ يكونُ لازماً، لوروده في غير القرآن؛ لأنَّهُ لا فائدة بدونه؛ لو قلت : لزيد قَلْبٌ وله عَيْنٌ، وسَكَتَّ لم يظهر لذلك كبير فائدة.
فصل
المعنى : لَهُمْ قلوبٌ لا يعلمون بها الخير والهدى، ولهُم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بها طريق الحق، ولهُمْ آذانٌ لا يسمعُون بها مواعظ القرآن فيتفكرون فيها ويعتبرون. ثم ضرب لهم مثلاً في الجَهْلِ والاقتصار على الأكل والشرب، فقال :﴿ أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ أي : أنَّ همتهم الأكل واشُّرب والتمتع بالشَّهواتِ ﴿ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ ؛ لأنَّ الأنعام تُميز بين المضار والمنافع فلا تقدمُ على المضار، وهؤلاء يقدمون بالشهوات على النَّار معاندةً مع العلم بالهلاك.
وقيل : لأنَّ الأنعام مطيعة للَّهِ تعالى والكافر غير مطيع.
وقال مقاتلٌ : هم أخطأ طريقاً من الأنعام؛ لأنَّ الأنعام تعرفُ ربَّها، وهم لا يعرفون ربُّهم ولا يذكرونه.
وقيل : لأنَّها تفر إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها، والكافِرُ يهرب عن ربِّه الذي أنعم عليه.
وقيل : لأنَّهَا تضل إذا لم يكن معها مرشد، فإن كان معها مرشد فقلما تضلُّ، وهؤلاء الكفار قد جاءهم الأنبياء وهم يزدادون في الضلال :﴿ أولئك هُمُ الغافلون ﴾.
فصل
دلَّت اليةُ على أنَّهُ تعالى كلَّفهم مع أن قلوبهم، وأبصارهم، وأسماعهم ما كانت صالحةً لذلك، وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصَّد عنه مع الأمر به.
قالت المعتزلةُ : لو كانوا كذلك لقبح من الله تكليفهم؛ لأن تكليف من لا قُدْرَةَ له على الفعل قبيحٌ لا يليق بالحكيم؛ فوجب حمل الآية على أنَّ المرادَ منه كثرة الإعراض عن الدَّلائلِ وعدم الالتفات إليها، فأشْبَهُوا من لا قَلْبَ له فاهم ولا عين باصرة ولا أذن سامعة.
وأجيبُوا بأنَّ الإنسان إذا تأكدت نُفْرتُهُ عن شيء صارت تلك النُّفرة المتأكدة الراسخةمانعة له عن فهم الكلام الدَّال على صحَّة الشيء، ومانعة عن إبصار محاسنه وفضائله وهذه حالة وجدانية ضرورة يجدُها كلُّ أحدٍ من نفسه. ولهذا قالوا في المثل : حُبُّكَ للشَّيءِ يُعْمِي ويُصِمُّ.
وإذا ثبت هذا فنقول : إن أقواماً من الكُفَّارِ بلغوا في عداوة الرسول - ﷺ - وفي بغضِهِ وشدَّةِ النُّفرةِ عن قبول دينه والاعتراف برسالته هذا المبلغ وأوقى منه والعلمُ الضروريُّ حاصلٌ بأنَّ حصول الحُبِّ والبُغْض في القلب ليس باختيارِ أحدٍ.
وإذا ثبت أنَّهُ متى حصلت هذه النُّفرة والعداوةُ في القلب، فإنَّ الإنسان لا يمكنه مع تلك النُّفرة الراسخة والعداوة الشديدة تحصيل الفهم والعلم، فإذا كان كذلك كان القول بالجبر لا محيص عنهُ.
فصل
وقد أورد الغزالي في الإحياء سؤالاً، فقال : فإن قيل : إني أجد من نفسي أنَّي إن شئت الفعل فعلت، وإن شئت الترك تركت، فيكون فعلي حاصلاً بي لا بغيري.