قوله :﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ ﴾.
يجوزُ في « ما » أوجه :
أحدها : أن تكون استفهامية في محلِّ رفع بالابتداء، والخبرُ « بصَاحبهم » أي : أيُّ شيء استقرَّ بصاحبهم من الجُنُونِ؟ ف : الجِنَّة : مصدرٌ يراد بها الهيئة، ك : الرِّكْبَةِ، والجلسة.
وقيل : المراد بالجِنَّة : الجِنُّ، كقوله ﴿ مِنَ الجنة والناس ﴾ [ الناس : ٦ ] ولا بدَّ حينئذٍ من حذف مضافٍ. أي : مَسِّ جنة، أو تخبيط جنَّة.
والثاني : أنَّ « ما » نافية، أي : ليس بصاحبهم جنون، ولا مسُّ جِنّ. وفي هاتين الجملتين أعني الاستفهامية أو المنفية، فيهما وجهان :
أظهرهما : أنَّهما في محلِّ نصب بعد إسقاط الخافض؛ لأنَّهُمَا علَّقا « التَّفكُّر » ؛ لأنَّهُ من أفعال القلوب.
والثاني : أنَّ الكلام تمَّ عند قوله :﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ ﴾، ثمَّ ابتدأ كلاماً آخر، إمَّا استفهام إنكار، وإمَّا نفياً.
وقال الحوفيُّ إنَّ « مَا بِصَاحبِهِم » معلقةٌ لفعلٍ محذوف، دلَّ عليه الكلامُ، والتقديرُ : أو لم يتفكروا فيعلمُوا ما بصاحبهم.
قال : و « تفكَّر » لا يعلَّقُ؛ لأنَّهُ لم يدخل على جملة. وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أن فعل القَلْبِ المتعدِّي بحرف جرٍّ أو إلى واحد إذا عُلِّقَ هل يبقى على حاله أو يُضَمَّن ما يتعدَّى لاثنينِ؟
الثالث : أن تكون « ما » موصولة بمعنى « الذي »، تقديره : أو لم يتفكَّرُوا في الذي بصاحبهم وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم، وعلى قولنا : إنَّهَا نافيةٌ يكونُ « مِن جِنَّةٍ » مبتدأ، ومِنْ مزيدةٌ فيه، وبِصَاحِبِهم خبره، أي : مَا جِنَّةٌ بِصَاحِبِهم.
فصل
دخول « مِنْ » في قوله من جنَّةٍ يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون.
قال الحسنُ وقتادةُ : إنَّ النبيَّ ﷺ قام ليلةًعلى الصَّفَا يدعو قريشاً فخذاً فخذاً، يا بني فلان، يا بني فلان، يُحذرُهم بأسَ الله وعقابه.
فقال قَائِلُهُمْ : إنَّ صاحبكم هذا المجنون، بات يُصوِّت إلى الصَّباحِ، فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية.
وقيل : إنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام كان يَغْشَاهُ حالة عجيبة عند نزولِ الوحي فيتغيَّر وجهه ويصفر لونه، وتعرض له حالة شبيهة بالغشي، والجهال كانوا يقولون : إنَّهُ جُنُونٌ، فبيَّنَ اللَّهُ تعالى في هذه الآية أنَّه ليس بمجنون إنَّمَا هُو نذير مبينٌ من ربِّ العالمين.
قوله :﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض ﴾ الآية.
لمَّا كانَ النَّظرُ في أمر النُّبُوَّةِ مفرعاً على تقرير دلائل التَّوحيد، لا جرم ذكر عقيبهُ ما يدلُّ على التَّوحيد، فقال :﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض ﴾ واعلم أنَّ دلائل ملكوت السَّمواتِ والأرض على وجود الصَّانع الحكيم كثيرة وقد تقدَّمت.
ثم قال :﴿ وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ ﴾ أي : أن الدَّلائل على التَّوحيد غير مقصورةٍ على السَّموات والأرض، بل كلُّ ذرَّة من ذرات العالم، فهي برهان قاهرٌ على التَّوحيد، وتقريره أن الشَّمس إذا وقعت على كوة البيت ظهرت ذرَّت، فيفرض الكلامُ في ذرَّةٍ واحدةٍ من تلك الذرات.