فنقول : إنَّها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية؛ لأنَّها مختصة بحيِّز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له، فكلُّ حَيِّزٍ من تلك الأحياز الغيرِ متناهية فرضنا وقوع تلك الذَّرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيِّز من الممكنات والجائزات، والممكن لابدَّ له من مُخَصّص ومرجح، وذلك المخصص إن كان جسماً عادَ السُّؤالُ فيه، وإن لم يكن جسماً كان هو اللَّهُ تعالى.
وأيضاً فتلك الذَّرَّةُ لا تخلو من الحركةِ والسُّكُونِ، وكلُّ ما كان كذلك فهو محدثٌ، وكل محدث فإنَّ حدوثه لا بد وأن يكون مختصّاً بوقتٍ معيَّنٍ مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده واختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه، لا بُد وأن يكون بتخصيص مخصصٍ قديم ثمَّ إن كان ذلك المُخَصَّص جسماً عاد السُّؤالُ فيه، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى وأيضاً فتلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجميَّة، ومخالفة لها في اللَّون والشَّكل والطبع والطعم وسائر الصِّفاتِ، فاختصاصها بكلِّ تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام، لا بد وأن يكون من الجائزات، والجائزُ لا بد له من مرجح، وذلك المرجح إن كان جسماً عاد البَحْثُ الأوَّلُ فيه، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى، فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصَّانع من جهات تتناهى، واعتبارات غير متناهية، وكذا القولُ في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني بمفرداته ومركَّباته، وعند هذا ظهر صدْقُ القائل :[ المتقارب ].

٢٦٣٨ - وَفِي كُلِّ شيءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ على أنَّهُ وَاحِدٌ
ولمَّا نبَّه تعالى على هذه الأسرار العجيبة بقوله :﴿ وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ ﴾ أردفه بما يوجب التَّرغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكُّر فقال :« وأنْ عَسَى »، و « أنْ » فيها وجهان :
أصحهما : أنَّهَا المخففةُ من الثقيلة، واسمُها ضمير الأمر والشأن، والمعنى : لعل آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيرُوا إلى النَّارِ، وإذا كان هذا الاحتمالُ قائماً؛ وجب على العاقل المُسارعة إلى هذا الفكر، ليسعى في تخليص نصفه من هذا الخوف الشَّديد، و « عسى » وما حيَّزها في محلِّ الرفع خبراً لها، ولم يفصل بَيْنَ « أنْ » والخبر وإن كان فعلاً؛ لأنَّ الفعل الجامد الذي لا يتصرَّف يشبهُ الأسماء، ومثله ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى ﴾ [ النجم : ٣٩ ] ﴿ والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ ﴾ [ النور : ٩ ] في قراءة نافع لأنَّهُ دعاء.

فصل


وقد وقع خبرُ « أنْ » جملةً طلبية في هاتين الآيتين الأخيرتين، فإنَّ عَسَى للإنشاء و « غَضَبَ اللَّه » دعاء.
والثاني : أنَّها المصدرية؛ قاله أبُو البقاءِ، يعني التي تنصب المضارع، الثنائية الوضع، وهذا ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ النُّحاة نَصُّوا على أنَّ المصدرية لا تُوصَل غلاَّ بالفعل المتصرف مطلقاً، أي : ماضٍ، ومضارع وأمر، و « عَسَى » لا يتصرف فكيف يقع صلة لها؟ وأنْ على كلا الوجهين في محل جر نسقاً على « ملكوت »، أي : أو لم ينظروا في أنَّ الأمر والشأن عسى أن يكون، و « أن يكُون » فاعل « عَسَى » وهي حينئذٍ تامَّةٌ؛ لأنَّها متى رفعت « أنْ » وما في حيَّزها كانت تامةً، ومثلها في ذلك : أوشك، واخلولق.


الصفحة التالية