وروي عن ابن عباسٍ، قال : كانت حوَّاءُ تلدُ فتسميه عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن فيصيبهم الموتُ، فأتاهما إبليسُ، وقال : إن سَرَّكُمَا أن يعيش لكما ولدٌ فسمياه عبد الحارث؛ فولدت فسمياهُ عبد الحارث فعاش، وجاء في الحديث خدعهما إبليس مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض.
واعلم أن هذا التأويل فاسدٌ لوجوه :
أحدها : قوله تعالى :﴿ فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ فدلَّ على أن الذين أتوا بهذا الشركِ جماعةٌ.
وثانيها : قال بعدهُ :﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ وهذا يدلُّ على أن المقصود من الآية : الرَّد على من جعل الأصنام شركاء للَّهِ تعالى، ولم يجر لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر.
وثالثها : لو كان المراد إبليس لقال : أيشركُون من لا يخلُقُ؛ لأن العاقلَ إنَّما يُذْكَرُ بصيغة من.
ورابعها : أنَّ آدم - عليه السَّلام - كان من أشدّ النَّاس معرفة بإبليس، وكان عالماً بجميع الأسماءِ كما قال تعالى :﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا ﴾ [ البقرة : ٣١ ] فلا بد وأن يكُون قد علم أن اسم إبليس هو الحارثُ، فمع العداوة الشَّديدة التي بينهُمَا ومع علمه بأنَّ اسم إبليس الحارث كيف يسمِّي ولدهُ بعبد الحارث؟ وكيف ضاقت عليه الأسماءُ بحيث لم يجد سوى هذا الاسم؟
وخامسها : أنَّ أحدنا لو حصل له ولد فجاءهُ إنسان، ودعاه إلى أن يسمي ولده بهذا الاسم لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار، فآدم - عليه السلام - مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا ﴾ وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة لأجل وسوسة إبليس، كيف لم يتنبه لهذا القدر المنكر؟
وسادسها : أن بتقدير أن آدم ﷺ، سماه بعبد الحارث، فلا يخلو إمَّا أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له أو جعله صفة له، بمعنى أنَّهُ أخبر بهذا اللفظ أنَّهُ عبد الحارثِ، فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة، فلا يلزم من هذه التسمية حصول الإشراك، وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم - ﷺ - اعتقد أنَّ لله شريكاً في الخلق والإيجاد، وذلك يُوجبُ الجزم بكُفْر آدم، وذلك لا يقوله عاقل؛ فثبت فساد هذا القول.
وإذا عُرِفَ ذلك لنقُولُ في تأويل الآية وجوه :
الأول : قال القفالُ - رحمه الله - إنَّه تعالى ذكر هذه القصة على سبيل ضَرْب
المثل وبيان أنَّ هذه الحالة صورة حال هؤلاء المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك، كأنَّهُ تعالى يقولُ : هو الذي خلق كُلَّ واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية، فلمَّا تغشَّى الزَّوج زوجته وظهر الحمل دعا الزَّوج والزَّوجة ربهما إن أتانا ولداً صالحاً سويّاً لنكونن من الشَّاكرين لآلائك ونعمائك، فلمَّا آتاهُمَا اللَّهُ ولداً صالحاً سويّاً جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما؛ لأنَّهُم تارة ينسبون ذلك الولد غلى الطَّبائعِ كما يقولُ الطبيعيون، وتارة ينسبونه إلى الكواكب كقول المُنجمين، وتارة إلى الأصنامِ والأوثان كقول عبدة الأصنام.


الصفحة التالية
Icon