ثم قال تعالى :﴿ فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي تنزَّه الله تعالى عن ذلك الشِّرْكِ. وهذا قول عكرمة.
والثاني : أن يكون الخطابُ لقريش الذين كانُوا في عهد النبي ﷺ « وهم آل أقصى ».
والمرادُ من قوله :﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ ﴾ قصي وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها، فلمَّا آتاهما ما طلبا من الولد الصَّالح السَّوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولاهما الأربعة : عبد منافٍ، وعبد العزَّى، وعبد قُصيٍّ وبعد اللاَّتِ وعبد الدَّار، وجعل الضمير في يُشركُونَ لهما، ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك.
الثالث : إن سلَّمنا أن هذه الآية وردت في شرح قصَّةِ آدم - عليه السَّلام -.
وعلى هذا ففي دفع هذا الإشكال وجوه :
أحدها : أن المشركين كانوا يقولون : أنَّ آدم - ﷺ - كان يعبد الأصنام، ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها، فذكر تعالى قصة آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - وحكى عنهما أنهما قالا :﴿ لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين ﴾ أي : ذكر تعالى أنه لو آتاهما ولداً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النِّعمة.
ثم قال ﴿ فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ ﴾.
فقوله :﴿ جَعَلاَ لَهُ شُرَكآءَ ﴾ ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتَّبعيد تقديره : فلما آتاهما صالحاً أجعلاً له شركاء فيما آتاهما؟ :﴿ فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذي يقولون بالشِّرك وينسبونه إلى آدم - ﷺ -، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام، ثم قيل ذلك المُنْعِم إن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك. فيقول المُنْعِمُ : فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا، ثم يقابلني بالشَّرِّ؟ إنه بريء عن ذلك.
فقوله : يقابلني بالشَّرِّ المراد منه : النفي والتبعيد فكذا ههنا.
ثانيها : إن سلمنا أن القصَّة في آدم وحواء فلا إشكال في ألفاظها إلا قوله ﴿ فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ ﴾، أي : جعلا أولادهما شركاء على حذف المضافِ وإقامة المضاف إليه مقامه وكذا فيما :« آتاهُما » أي أولادهما، كقوله :﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف ٨٢ ] أي أهل القريةِ.
فن قيل : فعلى هذا التأويل ما الفائدة في تثنية قوله « جَعَلا لَهُ » ؟
قلنا : لأنَّ ولدهُ قسمان ذكر وأنثى فقوله « جَعَلا » المراد منه الذكر والأنثى فمرة عبّر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين، ومرَّة عبَّرَ عنهم بلفظ الجمع، وهو قوله :﴿ فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
وثالثها : سلَّمْنَا أن الضمير في قوله :﴿ جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ ﴾ عائد إلى آدم وحواء - عليهما السَّلام - إلاَّ أنه قيل : إنَّهُ تعالى لما آتاهما ذلك الولد الصَّالح عزما أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديَّتِهِ على الإطلاق، ثُمَّ بدا لهُمَا في ذلك، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدُّنيا ومنافعها، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله تعالى وطاعته، وهذا العملُ، وإن كان مِنَّا طاعة وقربة، إلاَّ أنَّ حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين، فلهذا قال اللَّهُ تعالى :﴿ فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.