فإذا كانت هذه عرفانية و « مَنْ » استفهامية كانت « مَنْ »، وما بعدها سادَّة مسدَّ مفعول واحد، وإن كانت متعديةً لاثنين كانت سادَّة مسدَّ المفعولين وإذا كانت « تَعْلَمُونَ » متعديةً لاثنين، و « مَنْ » موصولة كانت في موضع المفعول الأوَّلِ، والثاني محذوفٌ قال ابن عطيَّة :« وجائزٌ أن تكون المتعدية إلى مفعولين، واقتصر على الواحدِ ».
وهذه العبارةُ ليست جيِّدة؛ لأنَّ الاقتصار في هذا الباب على أحد المفعولين لا يجوز، لما تقرَّر من أنَّهما مبتدأ وخبر في الأصل، وأمَّا حذف الاختصار، فهو ممتنعٌ أيضاً، إذ لا دليل على ذلك. وإن كانت متعدِّية لواحدٍ و « مَنْ » موصولةٌ فأمرها واضحٌ.
قوله :« وَيَحِلُّ عليْهِ » أي : يجبُ عليه، وينزل به « عذابٌ مقيمٌ » دائم. وحكى الزهراويُّ - رضي الله عنه - :« ويَحُلُّ » بضمِّ الحاءِ، بمعنى يجبُ أيضاً.
قوله :﴿ حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا ﴾ عذابنا، أو وقته، أو قولنا « كن ».
﴿ وَفَارَ التنور ﴾ اختلفوا في التَّنور : قال عكرمةُ والزهري : هو وجه الأرض، أي نبعث الأرض من سائر أرجائها حتى نبعث التنانير التي هي محال النار وذلك أنَّه قيل لنوح : إذ رأيت الماء قدْ فَارَ على وجه الأرض، فاركب السَّفينة أنت وأصحابك.
وروي عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال : التنور طلوع الفجر، ونور الصَّباح وقيل : التَّنُّور أشرف مكان في الأرض وأعلاه. وقيل :« فَارَ التَّنُّورُ » يحتمل أن يكون معناه : اشتدَّ الحر كما يقالُ : حمي الوطيسُ.
ومعنى الآية : إذا رأيتَ الأمر يشتد والماء يكثر فانْجُ بنفسك ومن معك إلى السفينة.
وقال الحسنُ ومجاهدٌ والشعبيُّ : إنه التنور الذي يخبز فيه. وهو قول أكثر المفسِّرين، ورواه عطيَّة عن ابن عبَّاس.
قال الحسنُ : كان تَنُّوراً من حجارةٍ، كانت حواء تخبزُ فيه، فصار إلى نُوح - ﷺ - واختلفوا في موضعه فقال مجاهدٌ والشعبيُّ : إنَّه بناحية الكوفة وعن علي أنَّهُ في مسجد الكوفة. وقال مقاتلٌ بموضع يقال له : عين وَرْدة بالشَّام وقيل : عين بالهند.
قال الزمخشريُّ :« حتَّى » هي التي يُبْتَدَأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشَّرطِ والجزاء، ووقعت غاية لقوله ﴿ وَيَصْنَعُ الفلك ﴾ أي : وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد والألف واللاَّم في « التَّنُّور » قيل : للعهدِ. وقيل : للجنس.
ووزن « تَنُّور » قيل :« تَفْعُول » من لفظ النور فقلبت الواوُ لأولى همزة لانضمامها. ثم حذفت تخفيفاً، ثم شدَّدُوا النون كالعوضِ عن المحذوف، ويعزى هذا لثعلب.
وقيل : وزنه « فَعُّول » ويعزى لأبي علي الفارسيِّ. وقيل : هو أعجميٌّ، وعلى هذا فلا اشتقاقَ له. والمشهورُ أنَّه ممَّا اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصَّابون.