قوله :﴿ يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً ﴾ نصب « مِدْرَاراً » على الحالِ، ولم يُؤنِّثْهُ وإن كان من مُؤثَّث لثلاثةِ أوجهٍ :
أحدها : أنَّ المراد بالسَّماء السحاب، فذكَّر على المعنى.
الثاني : أنَّ مفعالاً للمبالغةِ فيستوي فيه المذكَّر والمؤنث ك : صَبُور، وشكُور، وفعيل.
الثالث : أنَّ الهاءَ حذفت من « مِفْعَال » على طريقِ النَّسَب قاله مكيٌّ، وقد تقدَّم إيضاحه في الأنعام.
والمعنى : يُرسل عليكم المطر متتابعاً مرةً بعد أخرى في أوقات الحاجةِ. ﴿ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ ﴾ أي : شدة مع شدَّتكم. وقيل : المراد بالقوَّة : المال وذلك أنَّ الله تعالى لمَّا بعث هوداً إليهم، وكذَّبُوهُ حبس الله المطر عنهم ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم، فقال لهم هودٌ : إنْ آمنتم بالله أحْيَا اللهُ بلادَكم ورزقكم المالَ، والولدَ، فذلك قوله تعالى :﴿ يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً ﴾ والمِدْرَارُ : بالكسر الكثير الدرّ وهو من أبنية المبالغة.
فإن قيل : إنَّ هوداً - ﷺ - قال : لو اشتغلتم بعبادةِ الله لانفتحت عليكم أبوابُ الخيرات الدنيوية، وليس الأمرُ كذلك لقوله - ﷺ - « خُصَّ البلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأولياءِ ثُمَّ الأمثلِ، فالأمْثل » فكيف الجمعُ بينهما؟ وأيضاً فقد جرتْ عادةُ القرآنِ بالتَّرغيب في الطَّاعاتِ بسبب ترتيب الخيرات الدنيويَّة، والأخرويَّةِ عليها، فأمَّا التَّرغيبُ في الطَّاعَاتِ لأجل ترتيب الخيرات الدنيوية عليها؛ فذلك لا يليقُ بالقرآن.
فالجوابُ : لمَّا كثر التَّرغيب في سعاداتِ الآخرة لم يتغيَّر بالتَّرغيب أيضاً في خير الدنيا بقدر الكفايةِ.
قوله :﴿ إلى قُوَّتِكُمْ ﴾ يجوز أن يتعلق ب « يَزِدْكُم » على التَّضمين، أي : يُضيف إلى قُوَّتكم قُوَّةً أخرى، أو يجعل الجار والمجرور صفة ل « قُوَّة » فيتعلَّق بمحذوفٍ.
وقدَّرهُ أبو البقاءِ :« مُضافةً إلى قُوَّتِكُم »، وهذا يأباهُ النحاةُ، لأنَّهُم لا يقدِّرُون إلاَّ الكون المطلق في مثله، أو تجعل « إلى » بمعنى « مع » أي : مع قُوَّتكم، كقوله :﴿ إلى أَمْوَالِكُمْ ﴾ [ النساء : ٢ ].
ثم قال :﴿ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ﴾ أي : ولا تدبروا مشركين مصرِّين على الكفر.
﴿ قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ﴾ ببرهانٍ وحُجَّةٍ واضحةٍ على ما تقول. والباء في « بيِّنَةٍ » يجوزُ أن تكون للتَّعدية؛ فتتعلَّق بالفعل قبلها أي ما أظهرت لنا بينةٌ قط.
والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ؛ إذ التقديرُ : مُسْتقراً أو مُلتبساً ببيِّنةٍ.
قوله :﴿ وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ ﴾ أي : وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك، فيكون « عَنْ قَوْلِكَ » حالٌ من الضمير في « تَارِكي » ويجُوزُ أن تكون « عَنْ » للتَّعْليل كهي في قوله تعالى :﴿ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ ﴾ [ التوبة : ١١٤ ]، أي : إلاَّ لأجل موعدةٍ. والمعنى هنا : بتاركي آلهتنا لقولك، فيتعلَّق بنفس « تاركي ».


الصفحة التالية
Icon