وقوله :« مُبْصِراً » أسند الإبصارَ إلى الظَّرف مجازاً كقولهم :« نهارُهُ صائم، وليله قائم ونائم ».
قال :[ الطويل ]
٢٩١١-............................ | ونِمْتُ وما لَيْلُ المطِيِّ بِنَائِمِ |
ثم قال :﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ أي : يتدبَّرُون ما يسمعُون، ويعتَبِرُون.
فإن قيل : قوله :﴿ جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾ يدل على أنَّه - تعالى - ما جعلهُ إلا لهذا الوجه، وقوله ﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ ﴾ يدلُّ على أنَّه - تعالى - أراد بتخليقِ الليل والنهار أنواعاً كثيرة من الدلائل.
فالجواب : أن قوله - تعالى - :« لِتسكُنوا » لا يدلُّ على أنَّه لا حكمة فيه إلاَّ ذلك، بل ذلك يقتضي حصول تلك الحكمة.
قوله تعالى :﴿ قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغني ﴾ الآية.
هذا نوع آخر من أباطيلهم التي حكاها الله عنهم، « قالوا » يعني المشركين : الملائكة بنات الله، وقيل : قولهم : الأوثان أولاد الله، ويحتمل أن يكون قد كان فيهم قومٌ من النصارى قالوا ذلك، ثم استنكر هذا القول، فقال بعده :﴿ هُوَ الغني لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ فكونه - تعالى - غنيّاً مالكاً لكلِّ ما في السموات والأرض، يدلُّ على أنه سبحانه يستحيل أن يكون لهُ ولد، وبيانه من وجوه :
الأول : أنَّه لو كان محتاجاً، لافتقر إلى صانعٍ آخر، وهو محال، وكل من كان غنيّاً فلا بد أن يكون فرداً منزَّهاً عن الأعضاء والأبعاض، ومن كان كذلك يمتنع أن ينفصل عنه جزءٌ من أجزائه، والولد عبارةٌ عن انفصال جزء من أجزاء الإنسان، ثم يتولَّد من ذلك الجزء مثله، وإذا كان هذا محالاً، ثبت أنَّ كونه - تعالى - غنيّاً يمنع من ثُبُوت الولد لهُ.
الثاني : أن من كان غنيّاً، كان قديماً أزليّاً باقياً سرمديّاً، وكل من كان كذلك امتنع عليه الانقراض، والولدُ إنما يحصل للشَّيءِ الذي ينقضي وينقرض، فيكون ولده قائماً مقامه؛ فثبت أنَّ كونه - تعالى - غنيّاً، يدل على أنه يمتنع أن يكون له ولد.
الثالث : أنَّ كلَّ من كان غنيّاً يمتنع أن يكون موصوفاً بالشهوة واللذة، وإذا امتنع ذلك، امتنع أن يكون له صاحبةٌ وولد. وباقي الوجوه يطول ذكرها. ثم قال :﴿ لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض ﴾ وهذا نظيرُ قوله :﴿ إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً ﴾