ومن قرأ بالنُّون في الأوَّلِ وبالتَّاءِ في الثاني كان :« أن تفعل » معطوفاً على مفعول :« تأمُرُكَ » فقد صار ذلك ثلاثة أقسام، قسمٍ يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول :« نَتْرُكَ » وهي قراءةُ النُّونِ فيهما، وقسم يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول « تأمُرك »، وهي قراءةُ النُّون في « نفعلُ » والتاء في « تشاء »، وقسمٍ يجوزُ فيه الأمْران وهي قراءةُ التاء فيهما.
والظَّاهرُ من حيثُ المعنى في قراءة التَّاء فيهما، أو في « تشاء » أنَّ المراد بقولهم ذلك هو إيفاءُ المكيال والميزان؛ لأنه كان يامرهم بهما.
وقال الزمخشريُّ :« المعنى : تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأنَّ الإنسان لا يؤمرُ بفعل غيره ».
واعلم أنَّ قوله :﴿ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ ﴾ إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد. وقوله :﴿ أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ﴾ إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس.
فصل
قيل : المرادُ بالصلاة هنا الدِّين والإيمان؛ لأنَّ الصلاة أظهر شعائر الدين؛ فجعلوا ذكر الصَّلاة كناية عن الدِّين. وقيل : أصل الصلاة الاتِّباعُ، ومنه أخذ المصلِّي من خيل المسابقة، وهو الذي يتلو السابق؛ لأنَّ رأسه يكون على صلوي السَّباق، وهما ناحيتا الفخذين، والمعنى : دينُك يأمرك بذلك. وقيل : المرادُ هذه الأفعال المخصوصة، روي أنَّ شُعَيْباً كان كثير الصَّلاةِ، وكان قومه إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكُون، فقصدوا بقولهم : أصلاتُكَ تأمرك السخرية والاستهزاء.
﴿ إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد ﴾.
قال ابن عباس : أرادوا السَّفيه الغاوي؛ لأنَّ العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون : للديغ سليم، وللفلاة مفازة.
وقيل : قالوه على وجهِ الاستهزاء، كما يقال للبخيل الخسيس « لو رآكَ حاتمٌ، لسجد لك »، وقيل : الحليم، الرشيد بزعمك.
وقيل : على الصِّحَّة أي : إنَّكَ يا شعيبُ فينا حليم رشيد لا يحصل بك شقّ عصا قومك، ومخالفة دينهم، وهذا كما قال قومُ صالح :﴿ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا ﴾ [ هود : ٦٢ ].
قوله :« أَرَأَيْتُمْ » قد تقدَّم مراراً [ يونس : ٥٠ ]. وقال الزمخشريُّ هنا : فإنْ قلت : أين جوابُ « ارأيْتُم » وما له لم يثبتْ كما ثبت في قصَّة نوح، وصالح؟ قلتُ جوابهُ محذوفٌ، وإنَّما لم يثبتْ؛ لأنَّ إثباته في القصتين دلَّ على مكانه، معنى الكلام ينادي عليه، والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة واضحةٍ ويقين من ربِّي ونبيّاً على الحقيقة، أيصحُّ أن لا آمركم بترك عبادةِ الأوثان والكفِّ عن المعاصي، والأنبياءُ لا يبعثُون إلاَّ لذلك؟.
قال أبُو حيَّان : وتسميةُ هذا جواباً ل « أرَأيتُمْ » ليس بالمصطلح، بل هذه الجملةُ التي قدَّرها في موضع المفعول الثّضاني ل « أرَأَيْتُم » لأنَّ « أرَأَيْتُمْ » إذا ضُمِّنَتْ معنى أخبرني تعدَّت إلى مفعولين، والغالبُ في الثاني أن يكون جملة استفهامية ينعقدُ منها، ومن المفعول الأوَّل في الأصل جملةٌ ابتدائية كقول العربِ :« أرأيتك زيداً ما صنع » وقال الحوفيُّ :« وجوابُ الشَّرط محذوفٌ لدلالة الكلام على تقديره : أأعدلُ عمَّا أنا عليه ».