قوله :« غُمَّةً » يقال : غمٌّ وغُمَّةٌ، نحو كَرْبٌ وكُربَةٌ.
قال أبو الهيثم : هو من قولهم : غمَّ علينا الهلالُ، فهو مغمومٌ إذا التمسَ، فلم يُرَ؛ قال طرفةُ بن العبد :[ الطويل ]

٢٩٢٠- لعَمْرُكَ ما أمْرِي عليَّ بغُمَّةٍ نَهَاري ولا لَيْلِي عليَّ بِسرمَدِ
وقال اللَّيث : يقال : هُو في غُمَّةٍ من أمره، إذا لَمْ يتبيَّنْ لهُ.
قوله :﴿ ثُمَّ اقضوا ﴾ مفعول « اقضوا » محذوف، أي : اقضُوا إليَّ ذلك الأمر الذي تريدون إيقاعه بي؛ كقوله :﴿ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر ﴾ [ الحجر : ٦٦ ] فعدَّاه لمفعول صريح.
وقرأ السَّري :« ثُمَّ أفْضُوا » بقطع الهمزة والفاء، من أفْضى يُفضِي إذا انتهى، يقال : أفضَيْتُ إليك، قال تعالى :﴿ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ ﴾ [ النساء : ٢١ ]، فالمعنى : ثُمَّ أفضُوا إليَّ سرَّكم، أي : انتهوا به إليَّ، وقيل : معناه : أسْرِعُوا به إليَّ، وقيل : هو مِنْ أفْضَى، أي : خَرَجَ إلى الفضاءِ، أي : فأصْحِرُوا به إليَّ، وأبرزُوه لي؛ كقوله :[ الطويل ]
٢٩٢١- أبَى الضَّيْمَ والنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نابهُ عليه فأفْضَى والسُّيُوفُ معاقِلُه
ولامُ الفضاءِ واوٌ؛ لأنَّه من فضا يَفْضُو، أي : اتَّسعَ، والمعنى : فأحكمُوا أمركُم، واعزِمُوا وادعُوا شُركَاءَكُم، أي : آلهتكُم، فاستعينوا بها لتجتمع.
وروى الأصمعي، عن نافع :« فأجمعُوا ذوي الأمر منكم » فحذف المضاف، وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت.
قال ابن الأنباري : المرادُ من الأمر هنا : وجوه كيدهم، ومكرهم، والتقدير : لا تتركوا مِن أمركُم شيئاً إلا أحضرتُمُوه. والمراد من الشركاء : إما الأوثان؛ لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّها تَضُرُّ وتنفعُ، وإمَّا أن يكون المرادُ : من كان على مثل دينهم.
﴿ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ﴾ أي : خفيًّا مبهماً، من قولهم : غَمَّ الهلالُ على النَّاسِ، أي : أشْكل عليهم، فهو مغمومٌ إذا خفي. « ثُمَّ اقضُوا » أي : امضُوا، « إليَّ » : بما في أنفسكم من مكروه وافرغوا منه، يقال : قضى فلان : إذا مات، وقضى دينه : إذا فرغ منه، وقيل معناه : توجَّهُوا إليَّ بالقتل والمكروه، وقيل :« فاقْضُوا ما أنتم قاضُون » كقول السَّحرة لفرعون « ﴿ فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ ﴾ [ طه : ٧٢ ].
قال القفال : ومجاز دُخُول كلمة »
إلى « في هذا الموضع من قولهم : برئت إليك، وخرجت إليك من العهد، وفيه معنى الإخبار؛ فكأنَّه - تعالى - قال : ثم اقضُوا إليَّ ما يستقرُّ رأيكم عليه محكماً مفروغاً منه، ثم لا تنظرون أي : لا تمهلون ولا تُؤخِّرُون.
وقد نظَّم القاضي هذا الكلام على أحسن الوجوه، فقال : إنه - ﷺ - قال في أول الأمر : فعلى الله توكلت؛ فإنِّي واثقٌ بوعد الله، جازم بأنَّه لا يخلفُ الميعاد، فلا تظُنُّوا أنَّ تهديدكم إيَّاي بالقتلِ والإيذاء يمنعني من الدُّعاء إلى الله ثم إنَّه - ﷺ - أورد عليهم ما يدل على صحة دعواهُ، فقال :﴿ فأجمعوا أَمْرَكُمْ ﴾ كأنَّهُ يقول : اجمعوا ما تقدرُون عليه من الأشياء التي توجبُ حُصُول مطلوبكم، ثم لم يقتصر على ذلك، بل أمرهم أن يضُمُّوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أنَّ حالهم يقوى بمكانتهم وبالتَّقَرُّب إليهم، ثم لم يقتصر على هذين، بل ضمَّ إليهما ثالثاً، وهو قوله :﴿ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ﴾ أراد أن يبلغوا فيه كل غايةٍ في المكاشفةِ والمجاهرة، ثم لم يقتصر على ذلك، بل ضمَّ إليها رابعاً، فقال :﴿ ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ ﴾ والمراد : أن وجهوا كلَّ تلك الشُّرُور إليَّ، ثم ضمَّ إلى ذلك خامساً، وهو قوله :﴿ لاَ تُنظِرُونَ ﴾ أي : عجِّلُوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير انتظار، ومعلومٌ أنَّ مثل هذا الكلام يدل على أنه - ﷺ - كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله، وأنَّه كان قاطعاً بأنَّ كيدهم لا يضرُّه، ولا يصل إليه، ومكرهم لا ينفذُ فيه.


الصفحة التالية
Icon