وكان عليُّ بن سليمان يتعجَّب من قراءة الكسائي « سُعِدوا » مع علمه بالعربيَّةِ، ولعجبُ من تعجُّبه.
قال مكيُّ : قراءةُ حمزة والكسائي « سُعدِدوا » بضمِّ السِّين حملاً على قوله :« مسعود » وهي لغةٌ قليلة شاذةٌ، وقولهم :« مسود »، إنَّما جاء على حذف الزَّواد : كأنَّهُ من أسعده الله، ولا يقالك سعده الله، وهو مثل قولهم : أجنَّهُ الله فهو مجنون، أتى على جَنَّةُ الله، وإن كان لا يقال ذلك، كما لا يقال : سعده الله. وضمُّ السين بعيدٌ عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد وقال أبو البقاء : وهذا غيرُ معروفٍ في اللغةِ، ولا هو مقيسٌ.
فصل
قال ابنُ الخطيب : الاستثناءُ في اباب السُّعداءِ يجبُ حمله على كل الوجوهِ المذكورة فيما تقدَّم، وها هنا وجه آخر، وهو أنُ ربما اتفق لبعضهم أن يرفع من الجنَّة إلى المنازل الرَّفيعة التي لا يعلمها إلاَّ الله تعالى، لقوله :﴿ وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ ﴾ [ التوبة : ٧٢ ] إلى أن قال :﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ﴾ [ التوبة : ٧٢ ].
قوله :﴿ عَطَآءً ﴾ نُصِبَ على المصدر المؤكذ من عنى الجملة قبله؛ لأن قوله : ففِي الجنَّةِ خالدينَ « يقتضي إعطاءً وإنعاماً فكأنَّهُ قيل : يعطيهم عطاءً، و » عطاء « اسم مصدر والمصدر في الحقيقة الإعطاء على الأفعال، أو يكونُ على حذف الزَّوائد، كقوله :﴿ والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً ﴾ [ نوح : ١٧ ]، أو منصوب بمقدَّرِ موافق له، أي : فنبتُّم نباتاً، وكذلك هنا، يقال : عطوتُ معنى : تناولتُ. و » غَيرَ مجذُوذِ « نعته، والمجذوذُ : المقطوع، ويقال لفُتات الذَّهب والفضَّة والحجارة جُذاذ من ذك، وهو قريب من الجدِّ وبالمهلة في المعنى، إلاَّ أنَّ الرَّاغب جعل جدَّ بالمهملة بمعنى : قطع الأرض المستوية، ومنه : جدَّ في سيره يَجِدُّ جدًّا، ثم قال :» وتُصُوِّر من جددتث الأرض القطعُ المُجرد، فقيل : جددتُ الثوبَ إذا قطعته على وجه الإصلاح، وثوبٌ جديد أصله المقطوع، ثم جعل الكل ما أحدث إنشاؤه « والظَّاهر أنَّ الماتدتين متقاربتان في المعنى، وقد ذكرت لها نظائر نحو : عتا وعثَا، وكتب وكثب.
فصل
قال ابن زيد : أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنَّة، فقال :﴿ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ ولم يخبر بالذي يشاءُ لأهل النَّار.
وقال ابن مسعود : ليأتينَّ على جهنَّم زمان ولي فيها أحدٌ، وذلك بعدما يلبثوا فيها أحقاباً وعن أبي هريرة مثلهُ، وقد تقدَم، ومعناه عند أهل السُّنة : ألاَّ يبقى فيها أحدٌ من أهل الإيمان، وأما مواضع الكافر فممتلئه أبداً.
قوله :﴿ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ ﴾ أي : شك » مِمَّا يعبدُ هؤلاءِ « لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان، وأتبعه بأحوال الأشقياء، وأحوال السعداء شرح للرسول - ﷺ - أحوال الكفار من قومه، فقال :» فلا تَكُ في مريةٍ ممَّا يعبدُ هؤلاءِ « وحذف النون؛ لكثرة الاستعمال؛ ولأنَّ النون إذا وقعت طرف الكلام، لم يبق عند التلفظ به إلا مجرّد الغنَة، فلا جرم أسقطوه و » ما « في » مِمَّا يعبُدُونَ « و » مِمَّا يعبدُ آباؤنَا « مصدرية، ويجوز أن تكون الأولى اسمية دون الثانية، والمعنى أنَّهُم ضلال » ما يعبدون إلاَّ كما يعبد «، وفيه إضمار، أي : كما كان يعبدُ آباؤهُمْ من قبل، » وإنَّا لمُوفُّوهُم نَصِيبهُم « حقَّهم من الجزاء » غير منقُوص « ويحتمل أن يكون المراد أنهم، وإن كفروا، وأعرضوا عن الحقِّ، فإنا موفوهم نصيبهم من الرِّزق والخيرات الدنيويَّة، ويحتمل أن يكون المراد : إنَّا لموفُّوهم نصيبهم من إزاحة العذر وإظهار الدلائل وإرسال الرسُل وإنزال الكتب.