قوله ﴿ فِي الفلك ﴾ يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب « نجَّيناه »، أي : وقع الإنجاء في هذا المكان.
والثاني : أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به الظرفُ، وهو « معهُ » لوقوعه صلة، أي : والذين استقرُّوا معه في الفلك، وقوله :« وجَعلْنَاهُم » أي : صيَّرناهُم، وجمع الضميرُ في « جَعلْنَاهُمْ » حملاً على معنى « مَنْ »، و « خَلائِفَ » جمع خليفة، أي : يخلفُون الغارقين.
قوله :﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ ﴾ أي : من بعد نوحٍ، ﴿ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ ﴾ ولمْ يسمِّ الرسل، وقد كان منهم هودٌ، وصالحٌ، وإبراهيمُ، ولوطٌ، وشعيبٌ، ﴿ فَجَآءُوهُمْ بالبينات ﴾، وهي المعجزات الباهرة، و « بالبيِّنَاتِ » متعلقٌ ب « فَجاءوهُمْ » أو بمحذوف على أنه حال أي : ملتبسين بالبينات، ﴿ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ﴾ أي : أنَّ حالهم بعد بعثةِ الرسل، كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية.
قال القرطبيُّ : التقدير : بما كذَّب به قوم نُوحٍ من قبل، وقيل « بِمَا كذَّبُوا بهِ » أيْ : من قبل يوم الذرِّ فإنه كان فيهم من كذَّب بقلبه، وإن قال الجميعُ : بلى.
وقال النحاس : أحسن ما قيل في هذا : أنَّه لقوم بأعيانهم، مثل :﴿ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ البقرة : ٦ ]. و « بالبيِّنَاتِ » متعلق ب « جَاءوهُم »، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ، أي : مُلتبسين بالبيِّناتِ.
وقوله :﴿ لِيُؤْمِنُواْ ﴾ أتى بلام الجحود توكيداً، والضَّمير في ﴿ كَذَّبُواْ ﴾ عائدٌ على من عاد عليه الضَّمير في كانُوا، وهم قومُ الرُّسُل.
وقال أبُو البقاء ومكِّي : إنَّ الضمير في كانوا يعُود على قوم الرُّسُل، وفي « كَذَّبُوا » يعود على قوم نوح، والمعنى : فما كان قوم الرُّسُل ليؤمنوا بما كذَّب به قوم نُوح، أي : بمثله، ويجوز أن تكون الهاءُ عائدة على نوح نفسه، من غير حذف مضافٍ، والتقدير : فما كان قومُ الرُّسُل بعد نوح ليؤمنوا بنوحٍ؛ إذ لو آمنوا به، لآمنوا بأنبيائهم.
و « مِنْ قَبْلُ » متعلقٌ ب « كَذَّبُوا » أي : من قبل بعثةِ الرُّسُل.
وقيل : الضَّمائرُ كُلُّها تعودُ على قوم الرسل بمعنى آخر : وهو أنَّهم بادرُوا رسلهم بالتكذيب، كُلما جاء رسولٌ، لجُّوا في الكفر، وتمادوا عليه، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجِّهم في الكفر، وتماديهم.
وقال ابن عطية : ويحتمل اللَّفظُ عندي معنى آخر، وهو أن تكون « ما » مصدرية، والمعنى : فكذَّبُوا رسلهم، فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليُؤمِنُوا بتكذيبهم من قبل، أي : من سببه ومن جرَّائه، ويُؤيِّد هذا التأويل :« كذلِكَ نَطْبَعُ » وهو كلام يحتاجُ إلى تأمُّل.


الصفحة التالية
Icon