وقُرِئَ « بَقْيَة » على المرَّة من المصدر. و « فِي الأرْضِ » متعلقٌ بالفسادِ، والمصدرُ المقترن ب « أل » يعمل المفاعيل الصريحة فكيف في الظروف؟ ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذُوفٍ عل أنه حالٌ من « الفَسادِ ».
فصل
المعنى : فهلاَّ « كان مِنَ القُرونِ » التي أهلكناهم، « مِن قَبْلكُمْ » أولُوا تمييز وقيل : أولُوا طاعة وقيل : أولُوا خير، يقال : فلانٌ على بقيَّةٍ من الخير إذا كان على خصلة محمودة. و « ينْهَوْنَ عن الفسادِ في الأرضِ » أي : يقُومُون بالنَّهْي عن الفسادِ، ومعناه جحداً، أي : لم يكن فيهم أولُو بقية.
قوله :﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون استثناء منقطعاً؛ وذلك أن يحمل التخضيض على حقيقته، وإذا حُمل على حقيقته تعين أن يكون الاستثناءُ منقطعاً لئلاَّ يفسد المعنى.
قال الزمخشريُّ : معناه : ولكن قليلاً ممَّن أنْجينَا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهُم تاركون النَّهي ثم قال : فإن قلت : هل لوقوع هذا الاستثناء متصلاً وجهٌ يحملُ عليه؟ قلتُ : إن جعلتهُ متَّصلاً على ما هو عليه ظاهرُ الكلام كان المعنى فاسِداً؛ لأنَّهُ يكون تحضيضاً لأولي البقية على النَّهي عن الفساد إلاَّ للقليل من النَّاجين منهم، كما تقولُ : هلا قرأ قومك القرآن إلاَّ الصلحاء منهم، تريدُ استثناء الصُّلحاء من المحضَّضينَ على قراءة القرآن. فيَئُول الكلام إلى أنَّ الناجين لم يحضُّوا على النَّهْي عن الفاسد، وهو معنَّى فاسدٌ.
والثاني : أن يكون متًّصِلاً، وذلك بأن يؤوَّل التحضيض على قراءة القرآن بمعنى النَّفي، فيصحَّ ذلك؛ إلاَّ أنَّهُ يُؤدِّي إلى النصب غير الموجب، وإن كان غير النصب أولى.
قال الزمخشري : فإن قلت : في تحضيضهم على النَّهي عن الفاسد معنى نفيه عنهم، فكأنَّهُ قيل : ما كان من القُرُونِ أولُوا بقية إلاَّ قليلاً كان استثناءً متصلاً ومعنى صحيحاً، وكان انتصابهُ على أصل الاستثناء، وإن كان الأفصحُ أن يرفع على البلد.
ويؤيد أنَّ التحضيض هنا في معنى النَّفْي قراءةُ زيد من عليّ « إلاَّ قليلٌ » بالرفع، لاحظ معنى النَّفي فأبدل على الأفصحِ، كقوله :﴿ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ﴾ [ النساء : ٦٦ ].
وقال الفراء : المعنى : فلمْ يكن؛ لأنَّ في الاستفهام ضَرْباً من الجَحْدِ سمَّى التَّحضيض استفهاماً.
ونُقل عن الأخفش أنه كان يرى تعيُّن اتصال هذا الاستثناء كأنَّهُ لحظَ النَّفْيَ و « مِنْ » في :« مِمَّنْ أنْجَيْنَا » للتبعيض. ومنع الزمخشريُّ أن تكون للتعيضي بل للبيانِ فقال : حقُّها أن تكون للبيانِ لا للتبعيض؛ لأنَّ النَّجاة إنَّما هي للنَّاهينَ وحدهم، بدليل قوله :﴿ أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ﴾ [ الأعراف : ١٦٥ ].
فعلى الأول يتعلق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل « : قَلِيلاً ».
وعلى الثاني : يتعلق بمحذوف على سبيل البيان، أي : أعني.
قوله :﴿ واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ ﴾ هذا السببُ الثاني في نزولِ عذاب الاستئصال.