قوله :﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أنَّها جملة كُرِّرت للتوكيد؛ لما طال الفصل بالمفاعيل، كما كُرِّرت « أنكُم » في قوله تعالى :﴿ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٣٥ ]. كذا قالهُ أبو حيَّان، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
والثاني : أنه ليس [ بتأكيد ]، وإليه نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال :« فإن قلت : ما معنى تكرار » رَأيْتُمْ « ؟ قلتُ : ليس بتكرار؛ إنَّما هو كلام مُستأنَف على تقدير سؤال وقع جواباً له؛ كأنَّ يعقُوب ﷺ قال لهُ عند قوله :﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر ﴾ كيف رأيتها؟ سائلاً عن حال رؤيتها، فقال :( رأيتهم لي ساجدين ) وهذا أظهر؛ لأنَّه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد والتأسيس، فحمله على التَّأسيس أولى ».
و « سَاجِدينَ » : صفة جُمِعَ جَمْ العقلاء، فقيل : لأنَّه لما عاملهُم معاملة العقلاء في إسناد فعلهم إليهم، جمعهم جمع العقلاء، فقيل : لأنَّ الشيء قد يعامل مُعالمة شيء آخر، إذا شاركه في صفةٍ ما؛ كما قال في صفة الأصنام :﴿ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٩٨ ]، وكقوله تعالى :﴿ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾ [ النمل : ١٨ ].
والرُّؤية هنا : مناميَّة، وقد تقدم أنَّها تنصب مفعولين؛ كالعلميَّة؛ وعلى هذا قد حذف المعفول الثاني من قوله :﴿ رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ﴾، ولكن حذفه اقتصاراً ممتنع، فلم يبق إلا اختصاراً، وهو قليلٌ، أو ممتنع عند بعضهم.
وقال بعضهم : إن إحداهما من الرُّؤية، والأخرى من الرُّؤيا.
قال القفَّال : ذكر الرُّؤية الأولى؛ ليدل على أنَّه شاهد الكواكبِ، والشَّمس والقمر، والثانية؛ ليدل لا على مشاهدة كونها ساجدة لهُ.
فصل
ذكر المفسرون : أنَّ يوسف عليه السلام رأى في المنام أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر يسجدون لهُ، كان لهُ احد عشر من الإخوة يُسْتضاء بهم؛ كما يُسْتضاء بالنُّجوم، ففسَّر الكواكب : بالإخوة، والشمس والقمر : بالأب والأم، والسجُود : بتواضعهم له، ودخولهم تحت أمره، وإنما حملنا الرُّؤية على رُؤية المنام؛ لأن الكواكب لا تسجُج في الحقيقَةن ولقول يعقوب ﷺ :﴿ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ ﴾.
وقال السديُّ :« القمر : خالته، والشَّمسُ : أبُوه؛ لأن أمَّه راحِيل كانت قد ماتت ».
وقال ابن جريج : القَمَر : أبُوه، والشَّمسُ أمُّه؛ لأن الشمس مؤنثة، والقمر مذكَّر.
وقال وهب بن مُنبِّه رضي الله عنه :« إن يُوسفُ ﷺ ت رأى وهو ابنُ سبع سنين، إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركُوزة في الأرض كهيئة الدَّائرة، وإذا عَصاً صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعتها، فذكر ذلك لأبيه؛ فقال : إيَّاك أن تذكر هذا لإخوتك، ثمَّ رأى وهو ابن اثنتي عشرة سنة، الشَّمس، والقمر والكواكب، تسجُد له؛ فقصَّها على أبيه؛ فقال : لا تذكرها له فيَكيدُوا لَك كَيْداً ».