﴿ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً ﴾ [ المؤمنين : ٢٩ ] وتقولن : أنزلت زيداً الدَّارَ. والطَّرح : الرَّميُ، ويعبرُ به عن الاقتحام في المخاوف؛ قال عروة بن الوردِ :[ الطويل ]

٣٠٥٣ ومَنْ يَكُ مِثْلِي ذا عِيالٍ ومُقْتِراً مِنَ المَالِ يَطرَحْ نَفسَهُ كُلَّ مَطْرحِ
والمعنى : اطرحُوه إلى أرض تبعُد من أبيه، وقي : في أرض تأكله السِّباعُ.
و « يَخْلُ لكُمْ » جوابٌ الأمر، وفيه الإظهار والإدغام، وتقدَّم تحقيقها عند قوله ﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ].
قوله :﴿ وَتَكُونُواْ ﴾ يجُوز أن يكُون مجزوماً نسقاً على ما قبله، أو منصوباً بإضمار « أن » بعد الواو في جواب لأمر.

فصل


اعلم : أنَّه لما قوي الحسد، وبلغ النِّهاية، قالوا : لا بُدَّ من تبعيد يُوسف من أبيه، وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين : القتل، أو التَّغريب، ثم ذكروا العلَّة فيه، وهي قوله :﴿ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ﴾ أي : أنَّ يوسف شغله عنَّا، وصرف وجهه إليه، فإذا فقده، أقبل علينا بالميل والمحبَّة، ﴿ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي : من بعد قتل يوسف، ﴿ قَوْماً صَالِحِينَ ﴾ : أي : نتُوب بعد قتلهِ.
وقيل : يصلُح شأنكم، تتفرغوا لإصلاح شأن أمَّهاتكُم، واختلفُوا في قائل هذا القول.
فقيل : شَاورُوا أجْنَبياً؛ فأشار عليهم بقتله، ولم يقُل ذلك أحدٌ من إخوته.
وقيل : القائل بعض إخوته، واختلفوا فيه.
فقال وهب : شمعون، وقال كعب : دان، وقال مقاتل : رُوبيل.
فإن قيل : كيف يليق هذا بهم، وهم أنبياء؟
فأجاب بعضهم : بأنَّهم كانوا في هذا الوقت مراهقين لم يبلُغوا، وهذا ضعيفٌ؛ فإنه يبعد في مثل يعقُوب أن يبعث جماعة من الصِّبيان من غير أن يكون معهم قائمٌ عاقلٌ يمنعهم من القبائح.
وأيضا : فإنَّهم قالوا :﴿ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ ﴾ وهذا يدلُّ على أنَّهُم قب النبوَّة لا يكونوا صالحين، وذلك يُنَافِي كونهم من الصِّبيان، وأيضاً : قولهم :﴿ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴾ [ يوسف : ٩٧ ] والصغير لا ذنب له.
فأجاب بعضهم : بأنَّ هذا من باب الصَّغائر، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن إيذاء الأبِ الذي هو نبيٌّ معصوم، والكيد معهُ، والسعي في إهلاك الأخ الصَّغير، فكل واحدٍ من ذلك من أمَّهات الكبائر، بل الجواب الصحيح : أنَّهم ما كانُوا أنبياء، وإن كانوا أنبياء، إلا أن هذه الواقعة أقدموا عليها قبل النبوة.
ثم إنَّ قائلاً منهم قال :﴿ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ ﴾.
قيل : إنه رُوبيل، وكان ابن خالة يُوسُف، وكان أحسنُهم رأياً فيه؛ فمنعهم من قتله، وقيل : يهُوذا، وكان أقدمهم في الرَّأي والفضلِ، والسِّنِّ، وهو الصحيح.
قوله :« فِي غَيَابَةِ » قرأ نافع :« غَيابَات » بالجمع في الحرفين من هذه السُّورة، جعل ذلك المكان أجزاء، وسمَّى لك جزءٍ غيابة؛ لأن للجُبِّ أقطاراً ونواحِي، فيكون فيها غيابات، والباقون : بالإفراد؛ لأن المقصُود : موضع واحد من الجُبِّ يغيب فيه يوسف، وابن هُرْمز كنافع، إلا أنَّه شدَّد الياء، والأظهر في ههذه القراءة : أن يكُون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة، فهو وصف في الأصل، وألحقه الفارسي بالاسم الجائي على فعَّال، نحو ما ذكره سيبويه من الفيَّاد قال ابن جني :« ووجدت من ذلك الفخَّار : للخَزَف ».


الصفحة التالية
Icon