﴿ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً ﴾ [ الملك : ٣٠ ]، ولما سُمِّيا بالمصدر سمي المصدرُ بهما، فقالوا للعقل : المعقول، وللجلد : المجلُود، ومنه قوله تعالى :﴿ المفتون ﴾ [ القلم : ٦ ] أو على حذف مضاف، إي : ذي كذبٍ، ونسب فعل فاعله إليه.
وقرأ زيد بن عليٍّ :« كذِباً » بالنصب، فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله، واحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحالِ، وهو قليلٌ، أعني : مجيء الحال من النكرة، وقرأت عائشة الحسنُ [ رضي الله عنهما ] :« كّدِبٍ » بالدَّال المهملة.
قال صاحب اللَّوامحك « معناهُ : ذي كدب، أي أثر؛ لأنَّ الكدِبَ هو بياضٌ، يخرج في [ أظافير الشبان ] ويؤثر فيها، فهو كالنقش، ويسمى ذلك البياض : الفُوف، فيكون هذا استعارة لتأثيرة في القميص، كتأثير ذلك في الأظافر ».
وقيل : هو الدَّمُ الكدرُ، وقيل : الطَّريُّ، وقيل : اليابس.
فصل
قال الشعبيُّ : قصة يوسف كلُّها في قميصه، وذلك أنَّهم لمَّا ألقوه في الجبّ، نزعوا قميصه، ولطَّخوهُ بالدَّم، وعرضوه على أبيه، ولمَّا شهد الشَّاهدُ قال :﴿ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾ [ يوسف : ٢٧-٢٨ ] وقال :﴿ اذهبوا بِقَمِيصِي هذا ﴾ [ يوسف : ٩٣ ] ولما أتى البشيرُ إلى يعقوب بقميصه، وألقى على وجهه، فارتدَّ بصيراً.
قال القرطبِيُّ :« هذا مردودٌ، فإنَّ القميص الذي جاءوا عليه بالدذَم غير القميص الذي قُدَّ، وغيرُ القميص الذي أتى به البَشيرُ، وقيل : إنَّ القميص الذي أتى به البَشيرُ إلى يعقوب، فارتدَّ بصيراً هو القميص الذي قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ».
فصل
قال بعض العلماءِ رضي الله عنهم : لمَّا أرادوا أن يجعلوا الدَّم علامة على صدقهم؛ قرن اللهُ بهذه العلامة علامةً تعارضُهَا، وهي سلامةٌ القميص من التَّخريقِ، إذْ لا يمكن افتراسُ الذِّئب ليوسف، وهو لابسٌ القميس، ويسلمُ القميص من التَّخريق ولمَّا تأمَّل يعقوب عليه السَّلام القميص لم يجدْ فيه خرقاً، ولا أثراً، استدلَّ بذلك على كذبهم، وقال لهم : تزعُمُون أن الذِّئب أكله، ولو أكلهُ لشقَّ قميصه.
فصل
استدلَّ العلماءُ بهذه [ الآية ] في إعمال الأمارات في مسائلَ من الفقهِ كالقسامةِ وغيرها، كما استدلَّ يعقوب ﷺ ت على كذكبهم بصحَّة القميص، فيجبُ على النَّاظر أن يلحظ الآيات، والعلامات إذا تعارضت، فما ترجَّح منها قضى بجانب التَّرجيحِ، وهي قُوَّة التُّهمةِ، [ قال ابن الربي ] ولا خلاف في الحكم بها.
فصل
قال محمد بن إسحاقَ : اشتمل فعلهم على جَرائمَ من قطعيعةٍ الرَّحم وعُقوقِ الوالدِ، وقلَّة الرًَّأفةِ الصَّغير الذي لا ذنْبَ له، والغدر بالأمانة، وترك العهد، والكذب مع أبيهم وعفا اللهُ عنهم ذلك كلَّه حتى لا ييأس العبد من رحمة الله تعالى.
قال بعضُ العلماءِ : إنَّهم عزموا على قتله، وعصمهم الله رحمة بهم، ولو فعلوا لهلكوا.