وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر :« فَصْبراً جَمِيلاً » نصباً، ورويت عن الكسائي وكذكل هي في مصحف أنس بن مالكٍ رضي الله عنه وتخريجها على المصدر الخبري، أي : أصبر أنا صبراً، وهذه القراءة صعيفة إن خرجت هذا التَّخريج؛ لأنَّ سيبويه لا ينقاس ذلك عنده، إلاَّ في الطَّلب، فالأولى أن يجعل التَّقديرُ : أنَّ يعقوب رجع، وأمر نفسه، فكأنَّه قال : اصْبرِي يا نفسُ صبراً.
وروي البيت أيضاً بالرَّفعِ، والنَّصب على ما تقدَّم، والأمرُ فيه ظاهرٌ.
فصل
روى الحسنُ قال : سُئل النبيٌّ ﷺ عن قوله « فَصبْرٌ جميلٌ » فقال ﷺ :« صَبْرٌ لا شكْوَى فيهِ، فمَنْ بثَّ لمْ يَصْبِرْ »، ويدلُّ على ذلك قوله :﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله ﴾ [ يوسف : ٨٦ ] وقال مجاهدٌ « فَصبرٌ جَمِيلٌ »، أي : من غير جزعٍ. وقال الثوريُّ :« من الصًّبْر ألاّ تُحدِّثَ بوجعك، ولا بمُصيبتكَ ».
وقال ابنُ الخطيبِ :« وههُنا بحثٌ، وهو أنَّ الصَّبْر على قضاءِ الله واجبٌ، وأما الصَّبرُ على ظُلم الظَّالمِ، فغيرُ واجبٍ، بل الواجبُ إزالتهُ لا سيِّما في الضَّرر العائدِ إ لى الغير، وههنا أنَّ إخوة يوسف قد ظهر كذبهم، وخيانتهم، فلم صبر يعقوب على ذلك؟ ولِمَ لَمْ يبالغ في التَّفتيش، ولا البحث عنه، ولا السّعي في تخيص يوسف من البليّة، والشِّدَّة إن كان حيًّا، وفي إقامة القصاص إن صحَّ أنهم قتلوه فثبت أنَّ الصَّبرَ في هذا المقام مذموم ».
ويُقوِّي هذا السُّؤال أنَّه ﷺ كان عالماً بأنه حي؛ لأنَّهُ قال له :﴿ وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ [ يوسف : ٦ ]. الظَّاهر أنه إنَّما قال هذا الكلام من الوحي، وإذا كان عالماً بأنَّه حيٌّ سليم؛ فكان من الواجب أن يسعى في طلبه.
وأيضاً : فإنَّ يعقوب ﷺ كان رجلاً عظيم القدر في نفسه، وكان من بيتٍ عظيم شريفٍ، وأهلُ العالم كانوا يعرفونه، ويعتقدون تعظيمه، فلو بالغ في البحث، والطلب لظهر ذلك، واشتهر، ولزال وجهُ التَّلبيسِ، فما السَّبب في أنه ﷺ مع شدَّة رغبته في حضورِ يوسف، ونهاية حبِّه له لم يطلبه مع أنَّ طلبه كان من الواجبات؛ فثبت أنَّ هذا الصَّبر مذمومٌ عقلاً وشرعاً.
فالجواب أن نقول : إن الله سبحانه وتعالى منعه من الطَّلب تشديداً للمحنة عليه، وتغليطاً للأمر عليه، وأيضاً : لعلَّهُ عرف بقرائن الأحوال أنَّ أولاده أقوياء، وأنَّهم لا يمكنونه من الطَّلب، والفحص، وأنَّه لو بالغ في البحثِ فربما أقدموا على إيذائه، وأيضاً : لعلَّهن ﷺ علم أنَّ الله ت تبارك وتعالى سيصون يوسف ﷺ عن البلاءِ والمحنةِ، وأن أمرهُ سيظهرُ بالآخرةِ ولم يرد هتْك ستر أولاده، وإلقائهم في ألسنةِ النَّاس وذلك لأنَّ أحَد الولدينِ إذا ظلم أخاه، وقع أبوه في العذابِ الشَّديدِ؛ لأنه إذا لم ينتقمْ؛ يحترق قلبه على الولد المظْلُوم، وإن انتقم، احترق قلبه على الولدِ المُنتقَم منه، فلمَّا وقع يعقوب في هذه البلية رأى أنَّ الأصوب الصَّبرُ، والسُّكونُ، وتفويضُ الأَمْرِ بالكُليَّةِ إلى اللهِ تعالى.