فعند ذلك، خافتِ المرأةُ من التُّهمِ، فبادرت إلى أن رمتْ يوسف عليه السلام بالعفلِ القبيح، ﴿ وقالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ يعنى الزِّنا، ثم خافت عليه أن يقتل فقالت :﴿ إلاَّ أن يُسجنَ ﴾، أي : يحبس، ﴿ أوْ عذابٌ أليمٌ ﴾ أي : يُعَاقبُ بالضَّربِ.
قوله :« مَا جزاءُ » يجوز في « مَا » هذه أن تكون نافية، وأن تكون استفهاميَّة، و « مَنْ » يجوز أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة.
قوله :« إلاَّ أن يُسْجنَ » خبر المبتدأ، ولما كان « أن يُسْجنَ » في قوَّة المصدر عطف عليه المصدر، وهو قوله :« أو عذابٌ ». و « أوْ » تحتملُ معانيها، وأظهرها التنويع.
وقرأ زيد بن علي :( أو عذاباً أليماً ] بالنصب، وخرَّجه الكسائي على إضمار فعل، أو أن يعذَّب عذباً أليماً.
قوله :« هِيَ » ولم يقل هذه، ولا تلك، لفرط استحايئه « وهو أدبٌ حسنٌ حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور.

فصل


قال ابن اخلطيب : في الآية لطائف :
إحداها : أن حُبَّها الشَّديد ليوسف، حملها على رعايةِ دقيقتين في هذا الموضع، وذلك لأنهَّا بدأت بذكر السِّجن، وأخرت ذكر العذاب؛ لأنَّ المحبَّة لا تسعى في إيلام المحبوب، وأيضاً : لم تقل إنَّ يوسف يجب أن يقابل بهذين الأمرين، بل ذكرت ذلك ذكراً كليًّا صوناً للمحبوب عن الذِّكر بالشر وأيضاً قالت :»
إلاَّ أنْ يُسْجنَ « والمرادُ أن يسجن يوماً، أو يومين، أو أقل على سبيل التخفيف، فأمَّا الحبسُ الدَّائمُ فإنَّه لا يعبِّر عنه بهذه العبارة، بل يقال : يجبُ أن يجعل من المسجونين، كما قال فرعون لموسى ﷺ حين هدَّدُ ﴿ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين ﴾ [ الشعراء : ٢٩ ] وأيضاً : لما شاهدت من يوسف أنه استعصم، مع أنه كان في عنفوان العمر، وكمال القوة، ونهاية الشهوة، وعظم اعتقادها في طهارته، ونزاهته، فاستحيتْ أن تقول : إنَّ يوسف قصدني بالسُّوءِ، ولم تجد من نفسها أن ترميهُ بالكذبِ، وهؤلاء نسبُوا إليه هذا الذَّنب القبيحَ.
وأيضاً : يوسف ﷺ أراد أن يضربها، ويدفعها عن نفسه [ وكان ] ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السُّوء، فقولها ﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ له ظاهر وباطن، باطنه أنَّها التي أرادت السُّوء، وظاهره دفعه لها ومنعها، فأرادت بقولها :﴿ ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ﴾ فعل نفسها بقلبها، أو في ظاهر الأمر، أو همت أنه قصدني بما لا ينبغي، ولما لطَّخت عرض يوصف بهذا الكلام؛ احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال :﴿ هي راودتني عن نفسي ﴾ واعلم أنَّ العلاماتِ الكثيرة دالةٌ على صدق يوسف :
منها : أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ.


الصفحة التالية
Icon