فصل فيمن احتج بالآية على أن الملك أفضل من البشر


احتج القائلون بأ الملك أفضلُ من البشر بهذه الآية فقالوا : لا شك أنهن إنما ذكرن هذا الكلام في مع رض تعظيم يوسف صلوات الله وسلامه عليه، فوجب أم يكون إ خراجه من البشرية، وإدخاله في الملكيِّة، سبباً لتعظيم شأنه، وإعلاء مرتبتة، وإنما يكون كذلك، إذا كان الملك أعلى حالاً من البشر.
ثم نقول : لا خلُوا إما أن يكون المقصودُ بيان كماله في الحسنِ الظاهر، أو بيان كمال حُسْنِ الباطنِ الذي هو الخلق الباطن، والأول باطلٌ لوجهين :
الأول : أنهن وصفنه بكونه كريماً؛ بحسب الأخلاق الباطنة، لا بحسب الخلقةِ الظاهرة.
والثاني : أنا نعلمُ بالضرورة أنَّ وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكةِ ألبتة، وأما كونه بعيداً عن الشهوة، والغضب، معرضاً عن اللَّذات الجسمانية، مُتوجِّهاً إلى عبوديةِ الله، مستغرق القلبِ والرُّوحِ، فهو مشتركٌ فيه بين الإنسان الكاملِ، وبين الملائكةِ.
إذا ثبت هذا فنقول : تشبيه الإنسانِ بالملكِ، في الأمرِ الذي حصلت المشابهةُ فيه على سبيلِ الحقيقة، أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل فيه المشابهة ألبتة؛ فثبت أن تشبيه يوسف بالملك في هذه الآية، إنَّما وقع في الخُلق الباطن، لا في الصُّورة الظاهرةِ، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الملك أعلى حالاً من الإنسان في هذه الفضائل.
قوله :« فَذلِكُنَّ » مبتدأ، والموصول خبره، أشارت إليه إشارة البعيد، وإن كان حاضراً؛ تعظيماً له، ورفعاً منه لتُظهرَ عذرها في شغفها.
وجوَّز ابنُ عطية :« أن يكون » ذَلِكَ « إشارةٌ إلى حبِّ يوسف ﷺ والضمير في » فِيهِ « عائدٌ على الحبِّ، فيكون » ذَلِكَ « إشارةً إلى غَائبٍ على بابه ».
يعنى بالغائب : البَعيِدَ، وإلا فالإشارةُ لا تكون إلاَّ لحاضرٍ مُطلقاً.
وقال ابن الأنباري :« أشارت بصيغةِ » ذَلِكَ « إلى يوسف بعد انصرافه من المجلسِ ».
وقال الزمخشري :« إنَّ النسوة كُنَّ قلن : إنها عَشقَتْ عبْدَها الكنْعَانيَّ، فلمَّا رأينه، وفعن في تلك الدَّهشة، قالت : هذا الذي رأيتموهُ، هو العبد الكنعاني الذي لمُتُنَّنِي فيه، يعني : أنكَّن لم تصورنه بحقِّ صورتهن فلو حصلت في خيالكُنَّ صُرتهُ، لتركتن هذه الملامةً ».
واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة، في شدَّة محبَّتها له، كشف عن حقيقة الحال؛ فقالت :﴿ ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ ﴾ وهذا تصريحٌ بأنه عليه الصلاة واسلام كان بريئاً من تلك التُّهمةِ.
وقال السديُّ :« فاسْتَعْصمَ » بعد حلِّ السَّراويل.
قال ابن الخطيب :« وما أدري ما الذي حمله على إلحاقِ هذه الزيادةِ الفَاسدةِ الباطلةِ بنص الكتاب؟! وذل أنَّها صرَّحتْ بما فعلت :﴿ ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ ﴾ أي : فامتنع، وإنما صرَّحت به؛ لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهنَّ، وقد أصابهنَّ ما أصابهن، من رُؤيته.


الصفحة التالية
Icon