ثم قال :« ذلِكَ » أي : التَّوحيد والعلمُ ﴿ مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس ﴾، بِمَا بيَّن لهم من الهدى؛ ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ نعم الله على الإيمان.
حُكِيَ أنَّ واحداً من أهْلِ السُّنَّةِ دخل على بشرِ بن المعتمر، وقال له : يا هذا : هل تشكرُ الله على الإيمان أم لا؟ فإنْ قلت لا، فقد خالفت الإجماع، وإن شكرته، فكيف تشكرُ على ما ليس فعلاً له؟.
فقال له بشرٌ : إنَّا نشكرُ الله على أنه تعالى أعطانا : القدرة، و العقل، والآلة، فيجبُ علينا أن نشكره على إعطاءِ القدرةِ والآلةِ، فأمَّا أن نشكرهُ على الإيمان، مع أنَّ الإيمان ليس فعلاً، فذلك باطلٌ، فدخل عليهم ثمامةُ بن الأشرسِ، وقال : إنَّا لا نشكرُ الله على الإيمان، بل اللهُ يشكرنا عليه؛ كما قال تعالى :﴿ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾ [ الإسراء : ١٩ ] فقال بشرٌ :« لمَّا صعب الكلامُ، سهُلَ ».
قال ابن الخطيب :« واعلم أنَّ الذي اقترحه ثمامة باطلٌ؛ بنص هذه الآية؛ لأنَّه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله، ثم بيَّن أنَّ أكثر الناس لا يشكُرون هذه النعمةَ، وإنما ذكره على سبيل الذَّمِّ، فدل هذا على أنه يجبُ على كل مؤمن أن يشكُر الله على نعمةِ الإيمانِ، وحينئذٍ تقوى الحجَّةُ، وتكمُل الدلالة ».
قال القاضي : قوله : ذلِكَ « إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيدِ، فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بإلطافه، وتسهيله، ويحتملُ أن يكون إشارة إلى النبوة.
والجواب : أنَّ » ذَلِكَ إشارة إلى المذكورِ السابقِ، وذلك هو تركُ الإشراكِ فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى والقاضي يصرفه إلى الإلطاف والتسهيل؛ فكان هذا تركاً للظاهر، وأمَّا صرفه إلى النبوة، فبعيدٌ؛ لأن اللفظ الدالَّ على الإشارة يجبُ صرفه إلى أقرب المذكورات، وهو هنا عدمُ الإشراك.
قوله تعالى :﴿ ياصاحبي السجن ﴾ : يجوزُ أن يكون من باب الإضافة للظروف؛ إذ الأصل : يا صاحبيّ في السِّجن، ويجوز أن تكون من باب الإضافة إلى المشبه بالمعفول به، والمعنى : يا سَاكِني السِّجن، وذكر الصُّحبة، لطُولِ مقامهما فيه؛ كقوله تعالى :﴿ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ [ الأعراف : ٤٤ ٥٠ ].
وقوله :﴿ أَمِ الله ﴾، هنا : متًّصلةٌ؛ عطفت الجلالة على « أرْبَابٌ ».
فصل
اعلم أنه عليه ا لصلاة والسلام لما أدَّعى النبوة في الآية الأولى، وكان إثباتُ النبوة مبينًّا على إثبات الإلهيَّة، لا جرم شرع في هذه الآيةِ في تقريرِ الإلهياتِ، ولما كان أكثرُ الخلقِ مقرِّين بوجودِ الإله العالم القادر، وإنما ا لشأنُ في أنهم يتخذُون أصناماً على صُورِ الأرواح الفكلية، ويعبدونها، ويتوقَّعُون حصول النَّفْعِ والضُّر منها، لا جرم كان سعيُ أكثر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في المنع من هذه، وكان الأمر على هذا إلى زمانِ يوسف صلوات الله وسلامه عليه وعلى الأنبياء والمرسلين.