والثاني لا يَقْتَضِي ذلك، وقد تخبرُ عن المعرفةِ إخبار النكرةِ، فتقول : قال رجلٌ كذا، وأنت تعرفه؛ لصدقِ إطلاقِ النكرةِ على المعرفةِ.
واعلم أنَّهُ لا بُدَّ من كلامٍ سابقٍ يكون سبباً لعرفان يوسف صلوات الله وسلامه عليه ت [ وطلبه ل ] أخيهم، وذكروا فيه وجوهاً :
الأول وهو أحسنها : أنَّ عادة يوسف ﷺ مع الكلِّ أن يعطي كل احدٍ حمل بعيرٍ، وكان إخوته عشرةً؛ فأعطاهم عشرة أحمال؛ فقالوا : إنَّ لنا أباً شيخاً كبيراً، وأخاً آخر بقي معه، وذكروا أنَّ أباهم لاجل كبر سنِّه، وشدَّة حزنه لم يحضرْ، وأنَّ أخاهم بقي في خدمةِ أبيه، فلما ذكروا ذلك قال يوسف : هذا يدلُّ على أنَّ حبَّ أبيكم له أزيدُ من حُبَّه لكم، وهذا شيءٌ عجيبٌّ! لأنكم مع جمالكم، وعقلكم، وأدبكم، إذا كانت محبةُ أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم، دل هذا على أن ذلك أعجوبةٌ في العقلِ، الفضلِ، والأدبِ، فائتُونِي به حتى أراهُ.
الثاني : لعلَّهم لما ذكروا أباهم، قال يوسف : فَلِمَ تركتموه وحيداً فريداً؟.
قالوا ما تركناه وحيداً بل بقي عنده واحد، فقال لهم : ولِمَ استخلصه لنفسه؟
لأجل نقصِ في جسده؟ فقالوا : لا بل لأجلِ أنه يُحبُّه أكثر من محبته لسائرِ الأولادِ، فقال : لما ذكرتم أن أباكم رجلٌ عالمٌ حكيمٌ، ثم إنه خصَّه بمزيدِ المحبةِ، وجب أن يكن زائداً عليكم في الفضلِ، والكمالِ مع أنِّي أراكم فضلاء علماء حكماء؛ فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ؛ فائتُونِي بهِ.
الثالث : قال المفسرون : ولما دخَلُوا عليه وكلَّمُوه بالعِبرانيَّةِ، قال لهم : مَنْ أنتُمْ؟ وما أمركم؟ فإني أنكرتُ شأنكم؟.
قالوا : قومٌ من أرضِ الشام رعاة، أصابنا الجَهْد؛ فجِئْنَا نَمْتَارُ، فقال : لعلكم جِئتُم عُيُونا تنظرون عَوْرَة بلادِي، قالوا : معَاذ اللهِ! ما نحن بجَواسِيسَ؛ إنما نحنُ إخوةٌ بنو إبٍ واحدٍ، وهو شيخٌ صدِّيقٌ يقال له يعقوب نَبِيٌّ من أنبياء الله تعالى ؟
قال : كم أنتم؟ قالوا : كُنَّا اثني عشر، هلك مِنَّا واحدٌ، وبقي واحدٌ مع الأب؛ يتسلَّى به عن ذلك الولدِ الذي هلك، ونحن عشرةٌ.
قال : فمن يعلم أنَّش الذي تقولونه حق؟.
قالوا : أيُّها الملك : إننَّا ببلادٍ لا يعرفنا فيها أحدٌ.
قال : فدعوا بعضكم عندي؛ رهينةً، وائْتُونِي بأخٍ لكم، ليبلغ لكم رسالة أبيكم إن كنتم صادقين.
فعند هذا أقرعوا بينهم؛ فأصبت القرعُة شمعون، وكان أحسنهم رأياً في يُوسُفَ، فخلفوه عنده.
ثم إنه تعالى حَكَى عنه أنَّه قال :﴿ ألا ترون إني أوفي الكيل ﴾، أي : أوَفِّيه، ولا أبخسُه، وأزيدكم حمل بعيرٍ؛ لأجل أخيكم.
﴿ وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين ﴾ أي : خَيُْ المضيفين؛ لأنه أحسن إنزالهم، وأحسن ضيافتهم.
قال ابنُ الخطيب رحمه الله :« وهذا الكلامُ يُضعِّفُ ما نُقِل عن المفسرين بأنَّه أتَّهَمَهُم، ونسبهُم إلى أنَّهم جواسِيسَ، ولم يشافههم بذلك الكلام فلا يليقُ به أن يقول لهم :﴿ ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ﴾، وأيضاً : بعيدٌ من يوسف مع كونه صديقاً ت أن يقول لهم : أتنم جواسيسُ وعيون، مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التُّهمةِ؛ لأن البُهْتَان لا يليق بحال الصديق.