فصل
قال المفسريون : التَّثْريبُ : التَّوبيخُ، قال عطاءٌ الخراسانيُّ : طلب الحوائج إلى الشَّباب أسهل منها إلى الشيُّوخ ألا ترى إلى قول يوسف ﷺ « لا تَثْريب عَليْكُمْ »، وقول يعقوب ﷺ ﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي ﴾ [ يوسف : ٩٨ ].
واعلم أنَّا إذا جعلنا :« اليَوْمَ » متعلِّقاً ب :« لا تَثْريبَ » أي : لا أثرِّبُكمُ اليوم وهو اليوم الذي مظنته التَّثريب، فما ظنُّكم بسائر الأيَّام، ويحتمل أنِّي حكمت في هذا اليوم ألاّ تثريب مطلقاً؛ لأنَّ قوله :« لا تَثْرِيبَ » نفي للماهيَّة، ونفي الماهيَّة يقتضي نفي أفراد جميع الماهية، فكان ذلك مفيداً للنَّفي المتناول لكلِّ الأوقات والأحوال.
ثمَّ إنَّه أزال عنهم ملامة الدُّنيا طلب من اللهِ أن يزيل عنهم عقاب الآخرةِ، فدعا لهم بقوله :﴿ يَغْفِرُ الله لَكُمْ ﴾.
وإن قلنا :« اليَوْمَ » متعلق بقوله :﴿ يَغْفِرُ الله لَكُمْ ﴾ كأنه لما نفى الذَّنب عنهم مطلقاً بشَّرهم بأنَّ الله يغفر ذنبهم في ذلك اليوم، وذلك أنَّهم لما خجلوان واعترفوا وتابوا، فالله تعالى قَبِلَ توتبهم، وغفر ذنوبهم؛ فلذلك قال :﴿ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ ﴾.
« روي أنَّ رسول الله ﷺ أخذ بعِضَادتي الكعبة يوم الفتحِ وقال لقريش : ما تَرونَ؟
قالوا : خيراً أخٌ كريمٌ، وابنُ أخٍ كريمٍ، وقد قدرتَ، قال : أقُولُ ما قَالَ أخي يوسف :» لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ « ».
وروي أنَّ أبا سفيان لما جاء ليًسلم، قال لهُ العبَّاس رضي الله عنه :« إذا أتيت رسُول الله ﷺ فاتْلُ عليه :﴿ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ﴾ ففعل، فقال رسول الله ﷺ غفر الله لَكَ ولمن علَّمك ».
وروي : أنَّ أخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه : إنَّا نستحي منك لما صدر منَّا من الإساءة إليك، فقال يوسف : إنَّ أهل مصر لو ملكت فيهم، فإنهم ينظرون إليَّ بالعين الإولى، ويقولون : سبحان الذي بلغ عبداً بِيعَ بِعشرينَ درهماً ما بلغ، ولقد شَرُفتُ بإتيانكم، وعظُمتُ في العيون لما جئتم، علم النَّاس أنكم إخوتي، وأنِّي من حفدةِ إبراهيم ﷺ ثم سألهم عن أبيه، فقال : ما فعل أبي من بعدي قالوا : ذهبت عيناه؛ فأعطاهم قميصه وقال :﴿ اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً ﴾ أي يعيده مبصراً، وقيل : يأتيني بصيراً.
قال الحسنُ رضي الله عنه : لم يعلم أنه يعود بصيراً إلا بالوحي؛ لأنَّ العقل لا يدلُّ عليه وقال الضحاك : كان ذلك القميص من نسيج الجنَّة.
وعن مجاهدٍ : أمره جبريل صلوات الله عليه أن يرسل قميصه، وكان ذلك القميص قميص إبراهيم عليه الصلام وذلك أنه جُرِّد من يثابه، وألقي في النَّار عرياناً، فآتاه جبريل بمقيص من حرير الجنَّة، فألبسه إياه، فكان ذلك عند إبراهيم فلما مات إبراهيم عليه السلام ورِثهُ إسحاق، فلما مات إسحاق ورثهُ يعقوب، فلمَّا شبَّ يوسف عليه السلام جعل ذلك يعقوب في قصبةٍ من فضة وسد رأسها، وعلقها في عنقه لما كان يخافُ عليه من العين كانت لا تفارقه، فلمَّا ألقى في الجُبِّ عُرياناً جاءهُ جبريلُ عليه السلام وعلى يوسف ذلك التَّعويذُ؛ فأخرج القميص منه، وألبسه، ففي ذلك الوقت جاءهُ جبريل، وقال : أرسل ذلك القميص فإنَّ فيه ريحَ الجنَّة لا يقع على مبتلى، ولا سقيم إلا عُوفِي، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته، وقال :﴿ فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ﴾ أي : مبصرا وإنَّما أفرد بالذِّكر تعظيماً له، وقال في الباقين :﴿ وائتوني بأهلكم أجمعين ﴾.